[مقال] محمد الحميدي: وهُزِّي إليكِ بجذعِ القصيدةِ تُساقِطْ لؤلؤاً وجواهرَ
محمد الحميدي
أمسِكْ بيديك العاريتين هذا الغصن! أخفِضهُ قليلاً؛ لأرى التويجاتِ النابتة! ستنمو، فالرِّيحُ لم تكسُرِ الغصن، ولم تقتلعها من أصولها، ستنمو؛ لتثمر، وسنأكل الثمر الحلو.
أعد الغصن إلى ما كان عليه، وحاذرْ، فالمعنى ينمو ببطءٍ، ويتكون داخلها، ونحن من سنلتهِمُهُ!!
الثمرةُ المرَّة لا تعطي لآكلها إلا الحنظلَ، فالأرضُ السَّبخة لا تنتج إلا السَّبخ مثلها، أما الأرض المعتدلة، والتي يمر الماء بين أشجارها، فستطرح ثمراً حلواً، وأنتَ، حين تقطفها، كُلْها ببطءٍ، فالمعنى يهربُ حين تُسرع بملاحقته، وتذكَّر؛ الأشجار تطرح ثمراً متشابهاً، إلا أن مذاقَهُ مختلفٌ.
ثمة مأساةٌ حقيقيةٌ احتوتها القصائد منذ الأزلِ وإلى اليوم، فالمعنى عُكازة يتعكزُ بها الشعراء، وينظرون إليه كحامل لفكر خارق للحجب، ولا يجرؤ أحدٌ على مخالفته، يتعاظمُ المنع ويتحول إلى ما يشبه “الغول”، ذلك الكائن الخرافيُّ المخيف للنساء والأطفال، بينما الرجال، وحدهم القادرون على مواجهته.
النساء وحدهن، هن حواملُ المعنى، وواهباتُ الحياة، المجدُ للنساء! حين يتمكَّنَّ من فكِّ ألغاز القصيدة، وتذوُّق الثمرة، واكتشاف تفاصيلٍ دقيقةٍ في أعماقها، كما يقطفها الرجل، ويقدمها هديةً، في عيد ميلادهِنَّ، المجدُ للنساء! المجدُ للنساء!
العالمُ ليس إلا معنىً بداخل معنىً، المعاني تتكاثرُ وتتطور، ويحبل بعضُها ببعض، وتنجبها القصائدُ، تلك القصائد اللواتي يُشبهن الأنثى، فيلدن مع اقترانهن بالرجل؛ كائناً تام الخلقة، كامل النمو، لا يُشبه غيره إلا في الشكل، أما من الأعماق، فلكلِّ كائن حياةٌ مختلفةٌ، وله طعمٌ لا يشبه الآخرين/ الأخريات.
القصيدةُ عالمٌ داخل عالم، معنىً داخل معنىً، ينهمر مثل المطر، لا يمسكه إلا النادرون/ النادرات، وكم صعبٌ إمساكُهُ! فما يُرى كسرابٍ أحياناً، يتفتَّحُ عن أنهار متدفقة من الرحيق، يَستنشقها القادر، ويتلذذ بها المتذوِّق، أمَّا أولئك المصابون بانسداد الشمِّ، فمصيرُهم البقاءُ في الظلمة.
القصيدةُ أنثى، أو الأنثى قصيدةٌ، لا فرق بينهما، يمكنُ استبدال الأولى بالثانية، أو الثانية بالأولى، ولن يختلف شيءٌ، المعنى يأتي منهما، والحياة كذلك، كلتاهما تهبانِ الوجود طعمهُ، ولونهُ، ورائحتهُ، ونسغهُ الذي يجري داخل العروق، وكلتاهما أيضا تمنعانِ الحياة، وتقتلانِ الدهشة، حين يُتعامل معهما بقسوة.
رغم أن مأساة المعنى أزليةُ التكوين، ومستمرة إلى الأبد، إلا أن هنالك مأساةً ترافقها ولا تُرى، مأساةٌ أعمقُ وأكثر حِدَّة، تختصُّ بكِ أنتِ، لا تختصُّ بهِ هو، تختصُّ بالأنثى، والرجل متفرج، ومُتَّكِئٌ، تلك المأساة تُختصر – ربما – كتساؤلٍ: “أين الأنثى خارج القصيدة؟”
“لماذا لا تُرى؟”، ولا يمكن ملاحظتها، أ ليست واهبةَ المعنى والحياة؟ فلِم لا توجد على مقاعد الشعراء؟ ما سبب اختفائها من العالم، من عالم القصيدة؟ كصانعةٍ ومانحةٍ للكلمة، أ عجزٌ فيها أم في اللغة أم في العالم، أم في شيء أكثر خطورة، لا يُعلمُ ولا يمكن التَّكهن به.
أعتقدُ، الوقتُ حانَ؛ لتستعيد الأنثى دورها المفقود، دورها الطبيعي جداً؛ كمانحةٍ للفظ مثلما هي مانحة للحياة، وأن يكون للعالم معنى مختلفٌ؛ طعمٌ، ولونٌ، ورائحةٌ، ومذاقٌ.
الأنثى الواهبة للحياة، ليست عاجزةً؛ أن تهب القصيدة ألفاظَها، مثلما ألهمتِ الشاعر معناها.
لا أُريدُ أن أُوصفَ بالـ “مُتطرِّف”، البعض سينطقها كتسليةٍ، وستأخذُ الحياة مجراها، ومجرى الحياة هو أن نعيد لهذه الأنثى قليلاً من حقوقها الضائعة، وأوَّل حقٍّ ضائع يُستعاد؛ حقُّ الكتابة وامتلاك القدرة على القول!!!
أيتها الأنثى؛ القمقمُ انكسرَ، والزمنُ لا يُحرِّكهُ الرجل بمفرده، إنما هي قصيدةٌ، عالمٌ من المعنى، يلِجُه القادر، ويصنعه الواهب، ويمسك بأهدابه المُتنوِّرُ، أ عجزٌ فيكِ أم كسلٌ أم “حقٌّ سرقه الآخرون”؟! وهذا ما أعتقدهُ، وأنتِ وحدكِ القادرة على المطالبة بالحقِّ، والحصول عليه.
القصائد التي تصنعكِ، ترسم صورتكِ، تشتهيكِ.. كلها آتيةٌ من خارجكِ، وأنتِ.. أين أنتِ؟ ما موقعكِ؟ ليس لكِ أثرٌ. أ ليس من العدل أن يعود الحقُّ إلى صاحبته؟! أنتِ صاحبتُهُ. العالمُ، القصيدةُ، المعنى، الثمرةُ الحلوةُ، ألا ترغبين بتذوقها؟!