أجمل الأقدار
بلقيس السادة
تأقلمت مع ما أحاط بها إلى درجة أصبح قلبها يبكي وفي عينيها الدموع، تأقلمت إلى درجة التشاؤم من كل شيء وعدم الثقة بكل شيء!!
تأقلمت وانصهرت لدرجة خرجت من جلدها الطبيعي إلى النوع المنكسر الباكي، وهذا لم أعهده بها بحكم القرابة وهي قوية البأس شديدة الشكيمة، ما بالها تبكي وتولول حظها!! ماهي المصيبة التي حلت بها إلى درجة النحيب والألم، تُشعرك بزفراتها كأنها تحرق العالم!!
كلماتها ليست مرتبة منمقة من كثرة البكاء والنحيب!!
قربتها نحوي، ضممتها إلى صدري لتهدئتها، نصحتها بأن تأخذ “شور” ليشعرها بالهدوء، وبعد أن انتهت أصعدتها إلى غرفة الضيوف لتستريح وأعطيتها نصف حبة منوم لترتاح قليلًا، وأعطيتها القرآن لتقرأ من سوره الصغار لتهدئة نفسها، وخرجتُ بعد أن أغلقتُ عليها الباب!!
جلستُ في الصالة متحيرة في أمرها!! في الصباح وعند حدود الساعة الثامنة أقبلت بهدؤها المعتاد وابتسامتها تسبق صباحها، في فستانٍ صباحي أبيض، عقدت شعرها إلى الأعلى مع خصلات منه تركتها بحرية تخبرني فيها أن أمورها بخير..
جهزتُ الفطور والشاي على طاولة المطبخ، لكنها اكتفت بقهوة النسكافية، وقطعة من الكعك المحلى، لم أسألها عن سبب بكائها حتى لا تعتقد بأني أتتطلع إلى أن أحشر أنفي في خصوصياتها، أردتُ منها أن تبادر في عرض مشكلتها؛ لكنها أبت مستكبرة أو تحفظًا!!..
بعد الفطور استأذنت في الذهاب إلى غرفتها لترتاح قليلًا كما زعمتْ..
فما كان مني إلا أن انشغلت في تنظيف المنزل، والاستعداد لتحضير الغداء للأولاد.
لم انتبه للوقت إلا وصوت الأذان يعلن عن دخول وقت الصلاة،
تركتُ ما في يدي استعدادًا للصلاة، ثم مررت بجانب غرفة هالة لإيقاظها للصلاة، قرعت الباب بلطف لكنها لم تجبني، عاودت الكرة مرتين، ثلاث.. حتى أصابني القلق عليها، فتحتُ الباب فوجدتها مستلقية على الأرض وعينيها شاخصة إلى الأعلى؛ وبجانبها علبةً من الحبوب المنومة، مباشرة اتصلت بأخيها في العمل ليحضر، واتصلت بالإسعاف، وأنا في انتظارهم أعطي التشخيص الذي آراه على وجه هالة، لا تشعر، تتنفس ودقات قلبها بطيئة، لونها مائل إلى الإصفرار، ربع ساعة وحضر الإسعاف، كأنها دهرًا.
جاء أحمد مسرعًا متلهفًا وقد كنتُ بانتظاره في الخارج، ركبتُ معه السيارة، بعد أن أوصيت جارتي بالانتباه للأولاد عند رجوعهم من المدرسة والبقاء في منزلها،
وهناك في المستشفى عملوا عملية غسيل معدة لهالة، والحمد لله طمأننا الدكتور بأن حالتها مستقرة وستكون بخير.
استأذنت أحمد في الذهاب للأولاد والبقاء مع أخته.. ربما تفضفض له وتخبره بما آلمها..
عندما حضرت هالة مساء البارحة وهي في حالة هستيرية كان أحمد نائمًا، وفي الصباح أخبرته بوجودها، وعندما سأل عن السبب أخبرته، لم تخبرني هي بشيء؛ لكني خمنت أن الأمر ربما خناقة مع زوجها”!!..
لكني أعرف هالة رغم إظهار قوتها أمام الآخرين، فهي حساسة جدًا ورقيقة ومهذبة..
أرادتْ الزواج بعد تخرجها بمن أحبته زميلها في الجامعة وأصرتْ عليه، ولم يكن أمام أحمد إلا الموافقة مع عدم إقتناعه بشخصية من أحبته، لكنه أخبرها: بأنها فتاة بالغة في استطاعتها التّمييز والتحقق وتحّمل خياراتها، وكان لها ما أرادت، ليُخلي مسؤوليتهُ أمام الله وأمامها.
عندما عادت هالة مع أحمد في اليوم الثاني من المستشفى، جلس معها بقربها؛ إنها أخته حبيبته يربت على شعرها وكتفها، هو من قام بتربيتها بعد وفاة والديهما؛ كانت تبلغ من العمر ثلاثة عشر سنة وهو في السنة النهائية من الجامعة” قائلًا لها: في هذه الحياة مهما كانت المشكلة هناك حل؛ بالمواجهة وليس بالهروب منها، لقد ربيتك على الإيمان بالله والثقة والقوة، لن أعاتبك على ما فعلتِ، فقط أريدك أن تكوني أكثر قوة وبأسًا، وغدًا أتحدث معه وأرى ما يمكن عمله.
أحضرتُ لهما كوبًا من الحليب البارد لهالة، وكوبًا من عصير البرتقال لأحمد، ما إن رأتني حتى قامت تقبلني وتشكرني، شربت كأس الحليب، واستأذنتْ لتستريح.
كان أحمد مهمومًا يفكر في شرود، ربّتُ على كتفه قائلة: توكل على الله، أجابني مبتسمًا: ونعِّم بالله، ثم استأذن ليستريح أيضًا، وقمتُ لأعباء المنزل.
عند الساعة العاشرة نزلت هالة كأنها وردةً بين ضبابٍ أغشى بصر الخلق عن النظر اليها، تأملتها مبتسمة قائلة: ما شاء الله تبارك الله هذه هالة صغيرتي التي عهدتها، ضمتني بقوة وجلست على مقعد الطاولة في المطبخ قائلة: “في حياتنا لانحتاج دائمًا إلى كلمات للتعبير عن مكنوناتنا.. أفعالنا تُنبئ عما تختلجه صدورنا، كالشمس عند شروقها ترفع سُحب الظلام؛ وهذا ما أردته!!
يستكثر عليّ كلام الحب؛ إذا لأرَى أفعاله تطابق أقواله، أعطيتهُ ربيع عمري واستقبلني بخريفهِ، تناوبت عليّ فصول السنة وأنا معه، آخر نبضاتي المنكسرةَ عندما استفاق عقلي من حلمهِ الأحمق وأزال الغشاوة، لقد كنتُ في غيبوبةٍ كشمسٍ حُجبتْ، وقمرٍ في المُحاق، لا أعرف كيف أتصرف ولمن أصرخ، أغلقتُ الأبوابَ بوجهي وكتمتُ أنفاسي أحاول جاهدة إصلاح البقية من حياتي معه، حتى لا أرَى نظرات العتاب في عيون أخي، حتى خرج الأمر عن سيطرتي وأحسستُ بأني أخنق نفسي بيدي؛ لِم ولأجل مَن، من حضنته وأحببته باعني بأخس الأثمان مع زميلته في العمل، من حملتهُ على أكتافي، ولم التفت إلى كلام أخي الذي كان لي بمثابة الأم والأب؛ لأتحمل إذا نتيجة اختياراتي، وقررتُ مواجهة نفسي، لملمتُ ملابسي واتجهتُ لكما.
مسكتُ يديها وضغطتُ عليهما وأنا أنظرُ إلى جمال عينيها المغرورقتين بالدموع قائلة لها: نحن معك حبيبتي، وليس ما حصل خط النهاية بل قد يكون خط البداية لحياة أفضل، لمستقبل أفضل، “لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرَا” نحن نُخطط ونعتقد بأننا نتقن التخطيط، ومن جمال قدره بأنك لم ترزقي بأطفالٍ منه، لكن ثقي حبيبتي بأن أقدار الله عزوجل أجمل الأقدار..
اِنفصلت هالة عن زوجها، سنتين قضتهما معنا معززة مكرمة، من عملها للمنزل ومن المنزل لعملها، وأوقات الخروج تكن معنا، حتى ساق الله لها أجمل الأقدار وأجمل الأطفال..