محمد الحميدي: مثقفون “يلبسون الحفاظات”
محمد الحميدي
مفهوم المثقف صعب التحديد والتصنيف وأي حديث عن تعريفه سيعد ضربا من العبث، لذا سيتم تناول جميع المبدعين كمثقفين كي لا “يزعل أحد” ويعترض على عدم إدراجنا إياه في الكلام.
العصر الراهن متغير متبدل سريع التحرك والانقلاب. بالأمس القريب علوم اللغة استولت على مجال النقد، واليوم أصبحت التداوليات الاتجاه الرائج، والمنحى آخذ في التوسع ناحية الحِجاج.
أما بالنسبة للشعر فقد انتقلت القصيدة من الاعتماد على الطول إلى اتخاذ سمة الومضة والالتجاء إلى تقنيات الصورة مبتعدة عن التجريد أو المبالغة فيه.
وعلى مستوى الرواية؛ فالكتابة ما عادت مطلوبة في عالم اليوتيوبرز والسنابشاتيين والانستجراميين، فقد تحولت لتتخذ صيغة القاص أو الحكاء في عودة إلى زمن قديم، حيث الراوي يجلس في الأسواق ويتحدث بالأخبار ويحكي القصص بما فيها الخرافية التي تؤثر في وعي الجماهير ولا وعيهم.
ويمكن الحديث عن المسرح والتغيرات التي أصابته، فالاهتمام به على أساس الهدف والجدية أو البناء الدرامي والالتزام بالمحددات الزمانية والمكانية والحدث، قد تم نسفها وأصبحنا نشاهد المسرح ونطمئن إلى انتقالات المَشاهِد بسرعة لافتة وتكثيف الإثارة البصرية مثل الأضواء الكاشفة والسمعية مثل إدخال الأصوات.
بقية الفنون لا تخلو من تجديد وتغيير في محتواها بتأثيرات الأدوات التواصلية، وإن بدرجات متفاوتة، فالنحت ليس من السهل التأثير فيه، بينما يزداد التأثير في الصورة والتلاعب بها وتحولت لفن رقمي مستقل بذاته لا يخضع لاشتراطات فن الرسم التي ظلت سائدة لزمن طويل.
جميع التغيرات الحاصلة سببها وحيد يتمثل في عدد المتابعين ورغبتهم في استمرار الشكل الجديد الآخذ في البروز وإعطائه زخما يتجاوز أفقه الحالي، وهو ما استثمره “الميدياويون” والمشتغلون على الفنون التواصلية واستفادوا منه في تطوير أدواتهم ومقارباتهم.
يمكن اكتشاف التغيرات عبر إلقاء نظرة سريعة على السوشل ميديا وما يحمله من وجوه واتجاهات وتفاعلات، والتوصل إلى عبثية المشهد ولا جدواه من خلال المقارنة بين نظرتين هما:
- أولاً السلوكيات السائدة والتقاليد الجديدة.
- ثانياً ما يفترض بهؤلاء أن يقدموه من محتوى هادف ورصين يبتعد عن الابتذال.
هنا أقدم بعض الأمثلة لمشهد يتماوج عبر برامج التواصل ليكتشف القارئ حجم الثقافة السائدة ومدى توجهها..
المثال الأول:
الثقافة الآن ليست في حاجة إلى كبار وعمالقة، بل تحتاج أطفالاً لا يتجاوزون الثالثة أو الرابعة من العمر، هؤلاء يتم استخدامهم لجذب المشاهدين، إما عبر تخصيص حلقات لهم أو إشراكهم مع العائلة أو مع أطفال آخرين.
نسبة المشاهدات العالية وخصوصاً من فئة الأطفال والمراهقين تشير إلى اعتبار هؤلاء الصغار حلقة من حلقات التأثير، وهو ما يندرج ضمن التوجه الثقافي الجديد، فلم يعد المثقف ملتزماً بسنّ ويمكن للصغار احتلال مساحة واسعة تفوق مساحة المثقف التقليدي الملتزم.
المثال الثاني:
الثقافة الآن لا بد فيها من إثارة الانتباه وتركيز النظر ناحية الشخص، فالآراء التقليدية لا تجلب المتابع ولا تستهويه، لذا يتم اللجوء إلى العبارات الرنانة والصادمة، مثل إطلاق الأحكام القطعية، كموت الشعر وعدم مناسبته للزمن ويجب إزاحته لصالح الرواية الجديدة أو الراوي بحلته الحالية.
المثال الثالث:
الثقافة الآن لا تكتفي بالعرض بل تستعمل أساليب الهجوم، وهو ما يندرج في إطار الإثارة، ويتم استخدامه عادة من قبل النقاد لتحديد صورة الأعمال ومدى استيعابها للخصائص الجديدة للفنون والآداب، وهنا سنجد العمل الفني والإبداعي يتجاوز الناقد بمراحل لأنه أساساً لا يجيد قراءته بسبب ضعف الأدوات التي يمتلكها.
المثال الرابع:
الثقافة الآن تعني احتلال المنصة وعدم اتاحة الفرصة للوجوه الصاعدة، فالمثقف لا يعرف متى يتوقف عن الكتابة أو الظهور، بل يظل يستمر إلى أن يبلغ من العمر الثمانين والتسعين، وليس لديه أي جديد فيسبب تراجع المشهد واجترار الآراء الماضوية إذ يعيد إنتاج ثقافة تعود لخمسين أو ستين سنة وأكثر.
المثال الخامس:
الثقافة الآن لا تعتمد الجهد الشخصي بل تكتفي بالنقل واقتطاع الآراء من الكتابات أو الأقوال أو المشاهد السينمائية وتقدمها كإبداع خالص، وهؤلاء لا يقدمون جديدا ولا يساهمون في صناعة الثقافة.
المثال السادس:
الثقافة الآن لا تبالي بالأنواع الأدبية والمنافسة بينها، وتكتفي بالمقطوعات القصيرة والكتابات المختزلة والتركيز على فن الصورة، وهي ظاهرة آخذة في النمو وإسقاط الشروط التفاعلية على الفنون، فإما أن يخضع المبدع لقانونها أو يخرج من سوق التنافس، وقد أحدث ذلك ضرراً بالغاً سيستمر لزمن.
المثال السابع:
الثقافة الآن لا تهتم بالمحتوى الجاد بل تهتم بالهزلي والضاحك على حساب الرصانة والدقة وتقيّم الصلة بين المثقف وجمهوره على قاعدة ما يطلبون فاختيار الأعمال وتقييمها على أساس الرغبة وليس على أساس الجودة والرداءة.
المثال الثامن:
الثقافة الآن تلتزم الانتقالات البصرية والمشاهدات الميدياوية، وينبغي أن تصحبها انتقالات واقعية. فالمثقف الجديد لا يتقوقع داخل بيته ويؤثر البحث والتنقيب وتطوير إبداعه، بل يسعى إلى الظهور اللامع واعتلاء المنصة فالهدف ليس تقديم محتوى إنما إبراز ذات.
الأمثلة الثمانية لا تحتوي جميع الأمراض الثقافية، إنما أبرزها وقد بات من الصعب إغفالها أما أصحابها فيحتاجون حفاظات لئلا تصل الروائح أو يتسرب ال… إلى المشاهد أو المستمع أو القارئ ويكتشف المصيبة.