الواقع المّر
بلقيس السادة
لستُ من محبي مشاهدة أفلام الخيال العلمي!!، لكن؛ لأن الفيلم شدني حواره، لذا شاهدته أكثر من مرة، ودرجة واقعيته في أحداث الحياة، يحمل عنوان HER، والفيلم له علاقة بما سأحدثكم عنه.
المهم.. الفيلم، كما أخبرتكم، من الخيال العلمي، وقد فاز بجائزة الأوسكار لأفضل سيناريو “وهذا مالفت انتباهي، كان الحوار رائعًا دسمً، سواء في المشاعر أو التحليل”، باختصار، يدور الفيلم حول كاتب يطوّر علاقته مع نظام تشغيل ذكي ذو صوت وشخصية أنثى، وبما أنه رجل وحيد منفصل عن زوجته لمشاكل بينهما، كان البرنامج في البدء مساعد له في العمل، يذكره بمواعيد العمل العامة والخاصة، ويقرأ له الرسائل، ويتكلم معه بكل شيء، بمشاعره بفرحه، وضيقه ووو..، ومع الاستمرار والحديث صباحاً ومساءً، وصل إلى درجة عدم الإستغناء عنها وأحبها بعمق، مع علمه ويقينه وتيقنه بأنها إنسان آلي، لكنه أحبها بعمق.. !!
وهنا المصيبة؛ الفيلم رسالة توجيهية لنا. مؤثرة، تخبرنا بأن انفصالنا عن محيطنا الداخلي والدوائر المحيطة بنا، وجّل اهتمامنا ببرامج تبث رسالات زائفة، تعليقات ساخرة، “بوستات” لا معنى لها، مهاترات سخيفة إلا فيما ندر!!، محادثات فارغةالمضمون..
قد يكونون أشخاص من لحمٍ ودم، لكنها لا تعطي الصورة الكاملة للفرد، ولو أعطت تبقى الاختلافات الكامنة في كل شخص، إيجابياته وسلبياته، وتفكيره، نواياه الشيطانية، خصوصياته وتربيته وبيئته، عوامل أساسية توضع في مقدمة أي خطوة.
حان موعد استقبالها بعد أن حجزتْ لدي، فتاه في العقد الثالث من العمر، متوسطة الجمال، لديها جاذبية تشعر بها من النظرة الأولى، وهذا يُلفت الأنظار ويدير الرؤوس، لكن بمجرد أن تتفوه تشعرك بمدى الفراغ الفكري الذي تعيشه وتعتاش به وعليه.
أشرت لها بالجلوس بعد تحيتها، وبعد التحاور معها وسين وجيم، فتحت فمها عارضة مشكلتها ومدى تعلقها به، وجمالهُ الداخلي وحديثهُ المنمق كأنها أمام شاعر أو فنان أو أديب يصف الأشياء العامة والخاصة بمنظور منطقي رائع، لم ترَ له مثيل، وشخصية مستكينة مرحة تنال إعجابها من كل المحاور!!!
تركتها تواصل حديثها وبريق عينيها ينطق بالعشق الساذج المدّمر، وتأملاتها ونظراتها خارج النافذة!!، وابتسامة لا تفارقها أثناء الحديث عنه، كأنها في عالم آخر صنعته لنفسها!! ولولا آداب المهنة لنهضتُ من الكرسي وصفعتها لكي تفيق من سكرة حلمها!!
لكني فاجأتها بسؤال:
– هل تحدثتِ معه مباشرة، بمعنى هل قابلتيه؟؟
– أجابت: كلا، لن أستطيع مقابلته فهو متزوج!!
– إذن، لما هذا الهراء والضياع؟، أين مُخططاتكِ معه؟؟، أين أولويات الحياة لديك؟؟
تنهدتْ تنهيدةٌ شعرتُ بقلبها يقفز خارج الغرفة: يكفي مكالمته، أو مراسلته، أو تعليقاته!! أصبح من البديهات الضرورية في حياتي، لا أستطيع الاستغناء عنه، أتحرق شوقًا وألمًا للتواصل معه، وأنتهز الفرصة في أوقات العمل لمراسلته ولو بضع دقائق، كأنها وقود لي للاستمرار من ضغط العمل والحياة.
نظرتُ إلى ساعة الحائط، وقد قاربت الجلسة على الانتهاء،
أخبرتها: عفوًا لقد اِنتهت المدة المحددة.
قالت متحسرة: حسنًا متى الجلسة الثانية معكِ؟
أخبرتها: رقم “تلفونك” مع السكرتيرة ستعطيك خبر بذلك..
ودعتني مبتسمة حالمة!!
وأنا من الألم النفسي، والتحسر لما آل اليه حال البعض من الجنسين لا يعلمه إلا الله.. كم من فتياتنا بهذه الصورة المدّمرة الساذجة، -المؤلم أنها في الثلاثين من العمر-!! وهذا ماربطني بفكرة الفيلم، الهروب من الواقع المُّر إلى واقع أمّر، مهما كانت الظروف المحيطة بنا، صعوبتها، حرمانها، لا تجعلي مسيرتكِ مرتهنة بيد الآخرين، ولا تضعِي مفتاح حياتكِ بيد أفراد أو فرد يتحكم بالفتح والإغلاق حسب مزاجه الشخصي، ولا تطرقِي الأبواب المسدودة، حصّني أقفالكِ، واِتركيه يطرق بابكِ وأدخليه من الباب بالإذن من الأهل، بعد الدراسة والتمحيص وستكونين سيدة نفسكِ وقلبه.