إشراقة قلب
بلقيس السادة
بعد رحلة عناء وتأخير من شركة الطيران، تنفست الصعداء، أخيرًا فُتحت أبواب الطائرة للدخول، جلست في مقعدها، تشاطرا المقعد، أعلن الكابتن إعتذاره لتأخير الرحلة، لخلل ما!!
أخرجت كتابها المفضل؛ “الفضيلة” وهي رواية للكاتب الفرنسي برناردين دي سان بيير، ترجمها للعربية الكاتب مصطفى لطفي المنفلوطي، وتسرد هذه القصة عدة أحداث لعل من أهمها الحب العذري لبول وفرجيني، والقتال لبقاء وديمومة هذا الحب خالدًا للأبد في قلوبهم الفتية، كم تشتاق لهذا الكتاب يذكرها بمراهقتها وهي تسترجع صفاحته، نظرت إلى الجالس بجانبها يبدو “شخصًا مهذباً”، هكذا كانت تخاطب داخلها؛ لقد إعتادت على مخاطبة نفسها مرارًا وليس بجديد عليها “رحلة طويلة وشاقة”!!!
حلقت بعيدًا مع بول وفرجيني وقصة حبهما الندية، هاهي ترسم صور من ذكرياتها في مخيلتها، لا، لا لن تستعيد شيئًا، ستستمتع بالقراءة فقط، خرجت كلماتها بصوتٍ مسموع، نظر إليها: عذرًا سيدتي هل قلتِ شيئًا؟؟
رفعت بصرها عن الكتاب، وتلاقت نظراتهما، حاولت النظر إلى الكتاب، لكنها أعادت النظر اليه: عفوًا إنني شخص يكلم نفسه كثيرًا، ربما خرجت مني كلمة لم يكن القصد منها المحادثة!!
بقدر هدوءها المُصطنع لكنه شعر أنه أمام إمرأة تغلي كالمرجل من الداخل.
تمتم: ومَن منا لا يكلم نفسه في هذا العصر؟
ابتسمت له ابتسامة فهمت منه بأن المسافة طويلة، وسنكون عونًا لبعض، وقد تنقضي بالمناقشة والحوار.
همّت بالرد: لكن المضيفة سألت ما إذا كانا يرغبان في شئ ما، طلبت شاي وهو طلب قهوة، ثم التفتت إليه فإذا به مادًا يده بالسلام معرفًا عن نفسه: خالد..
تفاجأ بعدم مد يدها إليه بل وضعتها على صدرها قائلة: سبأ.
عفوًا، لم أفطن بأنك محجبة، عفوًا، أرجو قبول عذري.
سبأ: حصل خير
أخذت في إكمال كوب الشاي، وهي تتصفح كتابها، لقد كان في يديه كتاب رائج في ذاك الوقت “دع القلق وأبدأ الحياة” لمؤلفه دايل كارنيجي، ما الذي يقلقه، أم أصبح معظم الخلق كفوهة بركان؛ لكن ماذا يقصد من منا لا يُكلم نفسه؟
توقفت عن القراءة وبدأت في أسئلتها الداخليه، لاحظ شرودها، استجمع شجاعته قائلًا: اسمٌ جميل “سبأ”؛ مدينةٌ عريقة منذ القدم كانت عاصمة اليمن السعيد .
ردت عليه: أسماؤنا ليست إختيارية منا، الظاهر الوالدة عجبها الاسم، ونقشتهُ علّي!!
سألها: عن سبب الرحلة
أجابته باقتضاب: زيارة لابنتي التي تدرس هناك مع زوجها وأحفادي، ورحلة سياحية.
علق مباشرة ليواصل الحديث معها؛ بأن سبب ذهابه للعلاج!!!
نظرت اليه مباشرة: خير إن شاء الله..
أجاب مبتسمًا: أبدًا تشّييك سنوي. وسكت!!
عادت إلى محادثة نفسها: غريب هذا الرجل، سألها.. أجابته بصدق، وعندما سألتهُ.. رد بجوابٍ عام!!
أعقب مباشرة بعد أن شعر ماجال في خاطرها: لقد تعِّب قلبي قبل خمس سنوات ومنذ ذلك الوقت كل سنة أحمل حقائبي للتشّييك على هذا القلب المُتعَّب!!
علقت على كلامه: ما تشوف شر
ورجعت إلى كتابها!!
نسيتُ أن أخبركم أن أخينا في الله دكتور تخصص علم نفس،
لذا أخذ في المحاورة والمحادثة في شتى المجالات والعلاقات البشرية، وهي بدورها تجيب وتسأل، رأى فيها امرأةً صادقة المعنى، عريقة الأصل كاسم المدينة، اسمٌ على مسمى، كتاب مفتوح للآخرين عندما تريد هي ذلك، مثقلةً بالأقفال عندما لا تريد، لا ترفع سقوفًا من التوقعات في الآخرين حتى لا يخيب أملها فيهم، لذا عنوانها التوقعات المرتفعة تفسد العلاقات، كما رأى فيها الحياة والتفاؤل؛ رغم الكلمات المقتضبه بينهما، كأنها أرضٌ خِصبة لم يتطاول إنسانٌ على استكشافها، لعدم إطمئنانها وثقتها بالآخرين؛ لكنها إنسانة واثقة من نفسها، كاتبة، تعرف ما تريد ..
أما أخينا في الله فقد كان مهذبًا، لطيف المعشر، محاور ممتاز، محترم، خفيف الظل.
عشر ساعات مرت كأنها عشر دقائق، أول رحلة لها لم تشعرها بالملل، بل انساب الوقت بهدوء، تخلله بعض الإزعاج من أسئلته الشخصية وتعليقاته التي لم تعتادها؛ لكنها وضعتها مع رف خفة الظل، لذا كان انزعاجها منه مؤقت.
أعلنت المضيفة ربط الأحزمة لقرب الهبوط، وقبل الهبوط همس لها: سَعدتُ جدًا بالرحلة، والتعرف عليكِ
أجابته: وأنا كذلك، ثم سلمته ورقة بعد أن أفسح لها المجال للخروج، كتبت فيها:
قال: انتِ سيدتي مختلفةً عن كل النساء، لك ركزٌ، لك عنوان، مُحددة الهوية والزمان.
قالت: ليس معنى أن أكتب أن أعيش اللحظة، أو عشتها، هي مشاعر نستوردها، ونكتبها.
أنا لي هوية وعنوان ومركزي ورسالتي لكل إنسان، يفهم ما يريد أن يستوعب من خلال بثي. له الحرية في القراءة، لكن أرجوكَ سيدي لا تُقيدني بتحليلٍ مُؤطر الأركان.
إختفتْ عن ناظرهِ لثقتها بأن من شغل قلبها وفكرها ينتظرونها عند باب الخروج من المطار.