“زفير الجحيم” رؤية الفن خارج هيمنة الطقوس
هادي رسول
“ما يفعله الفن هو أنه يُنشئ فيك اختلافًا، اختلافًا في مخيلتك، في رؤيتك، في لونك، في اتصالك، في عالمك، في رغبتك، في بهجتك، في أحلامك، في ذائقتك”
هكذا يشير الدكتور علي الديري في كتابه “مجازات بها نرى، و هذا ما وجدته رهانًا راهنت عليه لجنة الإمام الحسن(ع) بالشويكة في عملها المسرحي العاشورائي السنوي والذي جاء هذا العام بعنوان “زفير الجحيم”.
في لجنة الإمام الحسن(ع)، مجموعة من الشباب آمنت بدور المسرح كرافد فني لتعزيز المراسم العاشورائية بما يخدم الحياة المعاصرة و تطلعاتها الفنية التي تخاطب بها العالم.
لن أتحدث عن تقنيات المسرح من نص مسرحي و تمثيل و إخراج و سينوغرافيا و سأتركها للمتخصصين الحاذقين بأدوات الفن المسرحي ونقده. ولكن سأتحدث عن العمل بوصفه رؤية ثقافية متطورة للأعمال الحسينية خارج إطار الطقوس التي تزدحم بها المساحات الدينية لإحياء عاشوراء.
المسرح له تاريخ طويل في المراسم العاشورائية الشيعية، والذي يُشار إليه بمسرح الشبيه وسيرة الواقعة الكربلائية، لكن النص المسرحي لعاشوراء الذي يحاول أن يخرج من سطوة السرد التاريخي التقليدي إلى الرؤية الفنية يكاد ينحسر في الأعمال العاشورائية في الخليج على أقل تقدير، فليس لدي اطلاع كافي و شافي عن ما يقدمه المسرح العاشورائي في العالم الإسلامي، إلا أنّ ما يصلنا من وسائل الاتصال والإعلام يشير أيضًا إلى سطوة مسرح سيرة الواقعة، في مختلف الدول التي يتم فيها إحياء واقعة الطف وحركة الحسين بن علي(ع).
حاجة الإنسان لتغذية مخيّلته حاجة نفسية متفاوتة في الأفراد والمجتمعات ولكنها حاجة ملحّة تلقي بظلالاها على وسائل التعبير والتلقّي لإشباعها أو ملامسة جزء يسير منها.
غياب الفنون الإنسانية في المراسم العاشورائية، جعل المكان شاغرًا لتغذيتها بمكوّنات تخيّليّة أخرى واستطاعت أن تجد لها حيزًا في المراسم العاشورائية وطقوسها التي تلبي حاجتها العاطفية المتأججة في الموسم.
كلاهما، الفنون والطقوس يتأججان مع العاطفة ومنها، لكن الفن يقوم على رؤية منهجية وخطاب معاصر للعالم، بينما الطقوس منكفئة داخل دائرة ضيقة حتى داخل الطائفة ولا يمكن أن يعوّل عليها في مخاطبة العالم ولا يتجاوز تلقيها من الآخر سوى أنها فلكلور ديني محصور داخل طائفة أو مجتمع ديني .
والرهان على الفن هو رهان عصري بامتياز، وبإمكانك أن تقول بالفن ما لا تستطيع قوله بأي وسيلة خطابية أخرى.
الفن هو رسالة الوعي بمغذيّات اللاوعي، لصنع لاوعي واعٍ يتحرك في المجتمعات بمنطلقات نبيلة لو تم حسن اختيار أهدافه ورسائله الموصلة إلى قضايا الناس والإنسان والتاريخ والمستقبل.
حركة الطف مكتنزة بمفردات الإنسان وقِيَم الجمال، ومشحونة بدراما التاريخ والصراع بين قوى الخير والشر التي تتصارع داخل الإنسان وخارجه.
حركة الطف مادة ثرية بما يلهم طاقة الإبداع، منفتحة على الفنون بكل تفرعاتها.
حركة الطف التي لم تحدث في الماضي لتكون فيه أسطورة تاريخية تقبع في كهف الماضي أسيرة ومقيّدة بوسائل تعبير محددة، وإنما لتحرر الإنسان بكل تجليات طاقاته الفكرية والحياتية والفنية بتفرعاتها المختلفة.
يقول الأديب والناقد العراقي المهتم بالآداب والباحث في الفنون فوزي كريم: ”الماضي هو خزين الكائن الإنساني الذي يغذّي لديه قوّة أن يواصل العيش، يفيض عليه بكل الأفكار التي اعتملت في تجربة الإنسان، ولا يُفرد له فكرة واحدة مُنتخَبة”
و ما “زفير الجحيم” إلا أحد تجليات ذلك الماضي الثري الذي يتحرك في الحاضر و يتطلّع للمستقبل كما يشتهي الإنسان في تجلياته و احتياجاته.