أيوَه.. عربي…! د. رانية الشريف*
في عام 1411هـ، خالفتُ كلّ التوقّعات التي رسمتها عائلتي لي، إذ قرّرت أن ألتحق بالقسم الأدبي بدلا من العلمي، رغم درجاتي العلمية العالية، واستبدلتُ مستقبل الطبيبة المرسوم في خيال أمي وأسرتي، بصورة مخبوءة في قلبي، صورة الأديبة والناقدة الباحثة في علوم العربية وتراثها. هكذا، رفعت يدي معترضة على الخط الواضح في عقولهم، وعدتُّ من مدرستي معلنة أني التحقت بالقسم الأدبي، وبأني سأكمل دراستي الجامعية في قسم اللغة العربية، ودراستي العليا في مسار النقد والأدب. غضبت أمي كثيرا! وخاصمتني لأيام، وتوقفت عن محادثتي، ولاك أفراد أسرتي الكبيرة حكاية الفشل والنسخة المكرورة من معلمة للغة العربية سيرهقها التدريس وأخطاء الطلاب الإملائية.
ضحك الجميع وبعضهم تحسّر على مشروع الطبيبة الذي تبخّر. كان والدي رحمه الله صامتا، لا يعلّق، ورغم جلوسه آنذاك على المقعد المتحرك بسبب مرضه العضال، كان يراقب ويعي كل شيء، وفي مرة كنت أطعمه الغداء، سألته: ماذا أتخصّص؟ لم يجب! فقلت له: دراسات إسلامية، فأشار برأسه لا، قلت: لغة إنجليزية كما تريد أمي؟ فقال برأسه: لا، قلت: علم نفس؟ هو تخصص جديد!، فقال : برأسه ويده: لا. قلت: إذن، سأصر على اللغة العربية! فقال بصوت مبحوح ضعيف ولسان أثقله المرض الشرس: “إيوة، عربي!”.
زادني هذا الجواب عنادا وإصرارا، خاصة بعد رحيل أبي الذي لم يشهد نجاحي في الثانوية العامة، تخرجت بالتقدير الأعلى، وحانت لحظة الاختيار، وعندها وقفت ثابتة غير ملتفتة لأيّ إغراء من أقسام أخرى، رغم ولعي بالتاريخ وعلم النفس. وتمّ قبولي بالقسم بعد مقابلة شخصية ناجحة، وبدأت رحلة الدرس العربي العميق معي. هذه الرحلة التي مهّدت لها قراءة مبكّرة كان من أسبابها وجود القدوة العظيمة في حياتي منذ طفولتي: أبي، الكاتب والقارئ والرجل المثقف الذي كلما دخل مجلسا ملأه وشغل فيه الناس، من خلال حكاياته وأسلوبه الشائق في الحديث. رحلة كان جزء كبير منها مغامرةً لذيذة في اكتناه عوالم القراءة المحرّمة، وكسر أفق توقع الكثيرين، وطرق أبواب للفلسفة فتحت لي فضاءات عجائبية.
والآن، في يوم اللغة العربية العالمي، أتبسّم فخورة، فكلّ أيامي هي أعراس للغة العربية، من صحوي وحتى منامي، وحتى في سنين الغربة، وبعد تعلّم الإنجليزية، بقيت لغتي العربية عشقا ملأ وجداني، وساقني للدنيا متغنّية بها خادمة لحرفها.
كل عام وأنت سيدة اللغات، يا لغة كتاب الله العظيم.
_________
* عضو هيئة التدريس، جامعة الملك سعود.