أحفورة “ذي القدم الصغيرة”.. هل هي من أسلاف البشراناويات..؟!

ترجمة: عدنان أحمد الحاجي

قدم لها: عادل عبد الله البشراوي، باحث في علم الإنسان القديم 

المقدمة 

  على الرغم من طبيعة التقرير التي تتعلق ببقايا أحياء منقرضة، وتناولها ضمن مسارات تراوح حول الخط التطوري المعني ببروز السلالات البشرية، وهو شأن يقع في صلب اهتمامي.. على الرغم من ذلك فإن المقاربة التي اختارها محرر التقرير لتكون عنوانه الأهم، والمتمثلة بإعادة تصنيف نوع البقايا، هي ما سوف أركز عليه في مقدمتي.

ما أعنيه هو علم التصنيف Taxonomy، وهو مجال علمي متطلب وبالغ التعقيد. هذا العلم معني بدرجة أولى بوضع معايير جينية وفسيولوجية، يستعين بها الباحث في علوم الأحياء للتفريق بين جنس حي وآخر.

المعايير المعنية تعيننا في معرفة مدى علاقة كائنين من أي عائلة حية. وهل ينتميان إلى نفس الجنس، أم هما فردان من عائلتين مختلفتين. وكذلك الفارق الجيني والفسيولوجي بينهما.

أهم ما يميز هذا العلم هي ديناميكيته التي تجعل منه عرضة للتطوير الدائم، تبعا للمستجدات التي تفرض مراجعة دائمة لمعايير التصنيف. وعليه، فمن الشائع ورود أخبار تشير إلى ظهور دلائل تفيد بإعادة النظر في تصنيف كائن ما وضمه إلى عائلة حيوانية أخرى.

حيوان الباندا مثال جيد للتوضيح، فحتى ثمانينات القرن الماضي، كانت الباندا الكبيرة والباندا الحمراء، جنسين في عائلة واحدة. ولكن نتيجة لتطور علم الجينات في تلك الفترة، تبين انتماء الباندا الكبيرة لعائلة الدببة، بينما أظهرت الباندا الحمراء اقترابًا جينيًا كبيرًا من عائلة العرسيات. أي أن الفارق بين حيواني الباندا المعنيين، كالفارق بين الكلاب والقطط. وقد أظهرت الجينات، وأيضًا في نفس الفترة، فصل حيواني الشمبانزي عن البونوبو، ليتم تصنيفهما كنوعين مختلفين، وإن ضمن عائلة واحدة.

هذان مثالان لحيوانين موجودين اليوم. وهما يخضعان لدراسة ومتابعة مباشرة ومستمرة. ونحن نمتلك عنهما كما كبيرًا من البيانات الجينية والتشريحية. ورغم ذلك فنحن نقع في شبهات التصنيف الخاطيء، فكيف بنا حين نتناول كسرًا لبقايا كائنات منقرضة ومبعثرة! إضافة الى أن أغلب هذه البقايا، ونتيجة لقدمها وتعرضها لظروف بيئية سيئة، فقدت مادتها العضوية، الأمر الذي يحرمنا من التعرف على هويتها الجينية. وسيلتنا الوحيدة في هذه الحالة تتمثل في دراسة القوام التشريحي للبقايا، ولكن بعد نجاحنا في اعادة تركيب هذا القوام.

هذا الطرح يحيلنا إلى حقيقة مهمة في دراسة المستحاثات. ويظهر لنا صعوبة مشروع البحث منذ خطوة العثور على البقايا، ومرورًا بدراسة بيئة الكشف وتاريخه، وإنتهاءً بتصنيفها. وهو مشروع قد يتطلب عقودًا طويلة من الدراسة قبل الانتهاء منه. أذكر في السياق مثال جمجمة جبل ايغود التي تم العثور عليها في المغرب عام 1961، ولم يتم تصنيفها إلا عام 2017. هذه الجمجمة بالمناسبة يعتبرها علماء الانسان القديم اليوم، أول عينة لبقايا الأنسان الحديث، حيث تعود لحوالي 300 ألف سنة.

التقرير أدناه أيضا يتناول بقايا قديمة الاكتشاف نسبيا، فقد تم العثور عليها في كهوف ستيركفونتين في جنوب افريقيا عام 1998. ورغم تميزها بهيكل يعد الأكثر اكتمالا في السجل الأحفوري للسلالات البشرية، إلا أنها لا تزال عرضة للفرضيات التي لم تحسم بعد. فقد تم اقتراح تصنيفها تحت نوعين ضمن عائلة الأوسترالوبيثيكوس. وهي عائلة ما قبل بشرية، سادت مناطق متفرقة من العالم القديم قبل ظهور نوع هومو Homo وهذا الأخير هو العنوان الذي تجتع تحته السلالات البشرية التي توجت أخيرًا بظهور الإنسان الحديث.

التقرير يقول أن فريقًا من الباحثين من جامعة لا تروب الأوسترالية بقيادة الدكتور جيسي مارتن، قام بمراجعة الدراسات وتقدم بورقة تدحض الفرضيتين، وتطرح بديلًا عن ذلك التصنيف لبقايا جنس جديد كليًا يجري تظهير ملامح هويته. هذا الطرح الأخير أعادني إلى العام 2012 حين تم الانتهاء إلى تصنيف سلالة الدينيسوفان بصفتها سلالة بشرية جديدة، بعد أن ظلت بقاياه بين فرضيتين، الأولى أنها تعود لبشر حديث، أما الثانية فتعود لفرد من سلالة النيانديرتال.

حسم تصنيف بقايا الدينيسوفان كان مشفوعا بدلائل جينية، وهو أمر أتاحته ظروف الحفظ التي أبقت قدرا جيدا من المادة العضوية للتعرف على جينومها، ومقارنته بجينومي الانسان الحديث والنيانديرتال، والخلوص إلى عدم توافقها معهما. وهو أمر أتاحه أيضا عمر بقايا الدينيسوفان الحديثة نسبيًا، حيث لا يتجاوز عمرها الـ 55 ألف سنة، إضافة طبعا لوجودها في كهف دينيسوفا الواقع في جنوب سيبيريا. وهي منطقة ظلت باردة طوال كل تلك الآلاف من السنين. بينما يراوح عمر بقايا كهوف ستيركفونتين الجنوب افريقية بين مليونين وثلاثة ملايين، وهي على الأرجح فاقدة لمادتها العضوية، وعليه فلن يكون متاحا الاستعانة بالجانب الجيني في الدراسة، وهو ما سوف يستدعي جهودً مضاعفة لاتمام مهام التصنيف.

التقرير المترجم

يُعتقد بشكل هام أن الأحفورة، التي عُثر عليها في كهوف ستيركفونتين على بعد 15 كم شمال غرب مدينة جوهانسبيرغ، جنوب إفريقيا، عام 1998 وأطلق عليها “ذو القدم الصغيرة، أو ليتل فوت (Little Foot)، (1)” تنتمي إلى جنس أسترالوبيثيكوس (أو سعلاة الجنوب، جنس ينتمي إلى البشراناويات) (2)، وهي سلالة من القردة المنقرضة، والتي كانت تمشي منتصبة على قدمين، وعاشت في جنوب إفريقيا ما بين 3 ملايين و1.95 مليون سنة مضت.

الباحث في علم الإنسان القديم رونالد كلارك Ronald Clarke، الذي قاد الفريق لفترة امتدت 20 عامًا للتنقيب عن الهيكل العظمي وتحليله، نسب أحفورة “ذي القدم الصغيرة” إلى نوع “أسترالوبيثكس بروميثيوس Australopithecus prometheuswhen ” وحين كّشف عن الأحفورة للعالم لأول مرة في عام 2017. وأكد آخرون أنها كانت من نوع “أسترالوبيثكس الأفريقي (3) Australopithecus africanus،” وهو نوع وصفه أول مرة باحث علم التشريح الأسترالي ريموند دارت Raymond Dart في عام 1925 وكان معروفًا بالفعل من نفس الموقع وجنوب إفريقيا بشكل عام.

لكن في ورقة خضعت لمراجعة الأقران ونُشرت في المجلة الأمريكية الأنثروبولوجيا البيولوجية (4)، وجد فريقٌ بقيادة الدكتور جيسي مارتن Jesse Martin، الأستاذ المساعد في جامعة لا تروب الأسترالية، أن أحفورة “ذي القدم الصغيرة” لا تشترك في سماتها الفريدة مع أيٍّ من النوعين المذكورين أعلاه، مما يشير إلى إمكانية أن ذي القدم الصغيرة قد يُمثّل نوعًا بيولوجيًا جديدًا تمامًا.

وقال الدكتور مارتن: “لا تزال هذه الأحفورة واحدة من أهم الاكتشافات في سجل البشراناوية homonini (أشباه البشر) (5)، ومعرفة هويتها الحقيقية تعتبر مفتاحًا لفهم الماضي التطوري للبشر: كيف عاش البشر في الماضي والسمات التي ساعدتهم على ذلك والضغوطات التي تعرضوا لها، سواءً في البحث عن الطعام أم في تجنب الأخطار أم في إيجاد الشريك بقصد التناسل.”

نعتقد أنه من غير المؤكد أن تكون الأحفورة هي من نوع الـ أسترالوبيثكس بروميثيوس أو الـ أسترالوبيثكس الأفريقي. بل من المرجح أن تكون نوعًا منقرضًا من أشباه البشر لم يُكتشف سابقًا، ولم يتم التعرف على هويته أو تصنيفه بوضوح.

يعود الفضل إلى الدكتور كلارك في اكتشاف أحفورة “ذي القدم الصغيرة،” كونه من القلائل الذين أكدوا وجود نوعين من أشباه البشر في كهف ستيركفونتين الجنوب أفريقي. ويُرجّح أن أحفورة “ذي القدم الصغيرة” تّثبت صحة هذا الاكتشاف. فهناك نوعان بالفعل.

ما تزال أحفورة “ذي القدم الصغيرة،” المعروفة رسميًا باسم StW 573، أكثر أنواع البشراناويات القديمة اكتمالًا في السجل الأحفوري.

ويُعدّ فريق الدكتور مارتن أول من طعن في تصنيف أحفورة “ذي القدم الصغيرة” منذ الكشف عنها في 2017.

وقال الدكتور مارتن: “نتائجنا تطعن في التصنيف الحالي لـ أحفورة “ذي القدم الصغيرة،” وتُبرز الحاجة إلى مزيد من التصنيف الدقيق القائم على الأدلة في مجال ماضي الإنسان التطوري.”

الدكتور مارتن، الأستاذ المساعد في جامعة لا تروب والباحث ما بعد الدكتوراه في جامعة كامبريدج، سيعمل مع طلاب من جامعة لا تروب، على تحديد نوع (هوية) الكائن الحي الذي تمثله أحفورة “ذي القدم الصغيرة” وموقعه في شجرة عائلة الإنسان (6).

قال البروفيسور أندي هيريس Andy Herries إن أحفورة “ذي القدم الصغيرة” كانت أحد أكثر الأحافير اكتمالاً وأهمية تم اكتشافها على الإطلاق من حيث ما يمكن أن تخبرنا به عن التنوع البشري القديم وكيف تكيف أسلاف البشر مع البيئات المختلفة في جنوب إفريقيا.

“يختلف هذا النوع بوضوح عن العينة النموذجية لأسترالوبيثيكوس بروميثيوس، وهو اسمٌ استند إلى فكرة أن هؤلاء البشر الأوائل هم أول من استطاع اقتداح النار واستخدامها لأغراض، مثل الطبخ وغيره، وهو ما نعلم الآن أنهم لم يكونوا هم. وتبرز أهمية هذه الأحفورة واختلافها عن الأحافير المعاصرة الأخرى بوضوح ضرورة تصنيفها كنوعٍ من الكائنات الحية الفريدة والمختلفة عن النوعين المذكورين أعلاه.”

ــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

1- https://ar.wikipedia.org/wiki/ليتل_فوت

2- https://ar.wikipedia.org/wiki/قرد_جنوبي

3- https://ar.wikipedia.org/wiki/قرد_جنوبي_إفريقي

4- https://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1002/ajpa.70177

5- https://ar.wikipedia.org/wiki/بشراناوية

6- https://real-sciences.com/علم-الاحیاء/التطور-والوراثة/شجرة-عائلة-الجنس-البشري/

المصدر الرئيس

https://www.latrobe.edu.au/news/articles/2025/release/iconic-fossil-may-be-new-type-of-human-ancestor

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×