حين تصبح المذكرات فخًّا للكاتب قراءة نقدية في رواية "حبر الشيطان" للكاتبة حسناء الشقيق

عبدالله النصر

تأتي رواية “حبر الشيطان – المذكرات المحرّمة” بوصفها عملاً سردياً طموحاً ينتمي إلى فضاء الفانتازيا المظلمة، لكنه لا يكتفي بالغرابة أو التشويق، بل يذهب إلى أبعد من ذلك ليطرح أسئلة عميقة حول الهوية، والكتابة، والشر، وحدود المعرفة.

الرواية لا تقدم حكاية مستقيمة ذات بداية ونهاية تقليديتين، بل تبني عالمها كمتاهة سردية، تجعل القارئ شريكاً في التيه، لا متفرجاً عليه، وهو خيار فني واعٍ يحسب للنص.

البناء والسرد

تعتمد الرواية بناءً زمنيًا غير خطي، حيث تتداخل الأزمنة وتتناوب السنوات، ويتكرر توقيت الساعة الثالثة فجرًا بوصفه علامة دلالية مشحونة بالقلق والإنذار، كما في قول السارد: “تلك الساعة الموضوعة أمامي دقت عقاربها الثالثة فجراً”.

الزمن هنا لا يعمل كخلفية محايدة، بل يتحول إلى عنصر ضاغط، يكاد يكون شخصية خفية تشارك في صنع الحدث، أما الفصول، فلا تقرأ كوحدات مستقلة، بل كمرايا متقابلة تعكس ثنائيات متكررة: الولادة والموت، الأب والضحية، الكاتب والمكتوب.

وتبلغ الرواية ذروتها في لحظة انكشاف لافتة، حين يقول السارد” أدركت متأخراً بأنني لست الكاتب… ولم تكن هذه مذكراتي”، وهي لحظة تعد من أكثر لحظات النص ابتكارًا، لأنها تنقل الصراع من مستوى الحدث إلى مستوى الوعي والكتابة ذاتها.

السرد في الرواية متعدد الأصوات؛ يتنقل بين نبرة أسطورية قاتمة، وصوت داخلي مضطرب، وصوت يومي معاصر يستدعي تفاصيل الأخبار والحياة العادية، إلى جانب صوت شيطاني ساخر. هذا التنويع يمنح النص إيقاعًا متغيرًا ويجنبه الرتابة، رغم أن الصوت الشعري يطغى أحيانًا على الفعل السردي، فيؤجل الحدث لصالح التأمل.

اللغة والأسلوب

لغة الرواية لغة شعرية داكنة، مشبعة بالصور والاستعارات، ومنسجمة مع الجو العام للنص، كما في قولها “كانت السماء مشتعلة بالشفق، ثم اشتعلت بالبرق، وكأن الكون بأسره غاضباً”.

توظف الكاتبة عناصر الطبيعة بوصفها كائنات حيّة تشارك في الشعور، غير أن كثافة الصور في بعض المواضع قد تبطئ الإيقاع وتحتاج إلى شيء من التخفيف.

التكرار حاضر في النص، وهو تكرار دلالي مقصود، يعكس الهوس والطقس والقلق، مثل “دماء! دماء!”، إلا أن هذا التكرار، رغم خدمته للأجواء، يحتاج أحيانًا إلى ترشيد حتى لا يتحول إلى إشباع زائد.

الشخصيات

تقدم الرواية شخصيات مركبة نفسيًا، في مقدمتها شخصية سيلير، التي تظهر بوصفها أبًا وضحية في آن، خائنًا في نظر الآخرين، ومنقذًا في نظر نفسه، كما يوصف “هو لعنة تسير على قدمين”.

أما شخصية بيل، الابنة البكماء القارئة للأفكار، فهي من أكثر شخصيات الرواية ابتكاراً، إذ تجمع بين الصمت والمعرفة، وتطرح مفارقة لافتة بين العجز الظاهري والقوة الخفية.

في المقابل، لا يظهر الشيطان كشرير تقليدي، بل كمرآة وقرين وانعكاس، يردد “إنك مني وإلي عائد”، فيمنح الشر بعدًا وجوديًا لا أخلاقيًا مبسطًا.

ما يميز الرواية

من أبرز جماليات الرواية تعاملها مع الكتابة بوصفها لعنة، ومع النص ككائن حي يكتب نفسه ويفرض سلطته على كاتبه، كما يلفت النظر توحيدها بين فضاءات الموت والكتابة، وتداخل الأسطوري باليومي، حيث تجاور النبوءة شاشة التلفاز، ويصبح العادي جزءًا من المأساوي.

ملاحظات نقدية

هناك بعض الإطالة الوصفية في فصول محددة، وتشابه نبرة بعض المقاطع رغم اختلاف المتكلمين، إضافة إلى الحاجة أحيانًا إلى إشارات أوضح للفصل بين مستويات السرد.

كما أن في بعض الحوارات تدخل لفظة تائهة بلهجة الكاتبة، ولم تخلو الرواية من أخطاء نحوية، وهي ملاحظات تحريرية لا تمس جوهر العمل أو بنيته الأساسية.

النهاية

نهاية دائرية مفتوحة، لا تغلق الأسئلة، بل تعمقها. حين يكتشف السارد أنه ليس الكاتب، ولا مالك النص، تنهار الهوية بوصفها يقينًا، ويصبح الإنسان كائنًا يكتب عنه أكثر مما يكتب. النهاية لا تشرح ولا تعتذر، وتترك القارئ أمام سؤال مقلق: هل أنا القارئ، أم الوريث؟.

الخلاصة

“حبر الشيطان – المذكرات المحرّمة” رواية جريئة، ذكية، ومظلمة بوعي، لا تقرأ للمتعة السهلة، بل للتجربة والتأمل والقلق الجميل.

إنها رواية تقول، في جوهرها، إن أخطر لعنة قد لا تكون الشيطان، بل أن نكتشف متأخرين أن النص يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×