جسور الشرقية البحرية.. من «مقطع» تاروت إلى بوابة رأس تنورة

القطيف: صُبرة

تمثّل الجسور البحرية في المنطقة الشرقية سلسلة من التحوّلات العميقة في علاقة الناس بالبحر، بدأت بجسر تاروت في أواخر الخمسينيات الميلادية، وتصل اليوم إلى الجسر البحري العملاق الذي يربط صفوى برأس تنورة، بوصفه أحدث وأكبر المنجزات في هذا المسار.

جسر تاروت في السبعينيات والثمانينيات
جسر تاروت في السبعينيات والثمانينيات
جسر تاروت في السبعينيات والثمانينيات

عبور البحر قبل الجسور

قبل أن تُنشأ الجسور، كان العبور بين القطيف وجزيرة تاروت يتم عبر «المقطع»، وهو ممرّ بحري ضحل يسمح بالعبور مشياً على الأقدام أو بعربات بسيطة في أوقات الجَزْر، بينما تتحوّل الرحلة في أوقات المد إلى مغامرة بحرية باستخدام قوارب تُسمى محلياً «القاري». تقارير حديثة توثّق هذا النمط من العبور وتربطه بذاكرة أجيال عاشت قبل الجسر الأول، وتشير إلى أن الأهالي ظلوا يعتمدون على هذه الوسائل حتى بعد افتتاح الجسر في مطلع الستينيات الهجرية.

مقطع تاروت قبل إنشاء الجسر

هذا الواقع، بما فيه من مشقّة وخطورة، كان الدافع الأهم وراء المطالبة بجسر يربط الجزيرة بالبرّ، ويؤمّن حركة الناس والسلع والخدمات.

جسر تاروت

تعود قصة جسر تاروت إلى نهاية الخمسينيات الميلادية تقريباً، حين بدأت أولى محاولات تنفيذ المشروع بقرار رسمي، لكن المشروع تعرّض لتعثر طويل استمرّ قرابة عشر سنوات، بسبب مشكلات فنية وإدارية وحادث غرق ارتبط بعمليات التنفيذ آنذاك، كما تروي وثائق ومقالات توثيقية كُتبت بعد ذلك بسنوات.

جسر تاروت من جهة شارع الرياض

بحسب دراسة توثيقية للباحث عدنان السيد محمد العوامي، فإن المرحلة الحاسمة في تنفيذ الجسر بدأت بعد نشر وزارة المواصلات إعلاناً في صحيفة «اليمامة» عام 1380هـ عن مناقصة لإنشاء طريق يربط القطيف بجزيرتي تاروت ودارين. وقد استؤنفت الأعمال على أساس هذا الطرح، إلى أن افتُتح الجسر فعلياً في شهر محرّم 1382هـ، أي في مطلع الستينيات الميلادية، ليمثّل أوّل ربط بري حديث بين الجزيرة ومحافظة القطيف.

جسر تاروت من جهة شارع الرياض

جسر رُدم من جبال القطيف

تكشف المادة نفسها أن ردم الجسر اعتمد على كميات ضخمة من الصخور جُلبت من جبال قريبة مثل جبل «الحريف» قرب العوامية، وجبل «القوم» غربها، ومقالع «جاوان» شمال صفوى، وغيرها. هذا الردم ألغى القناطر القديمة، وأثّر في حركة المدّ والجزر، فتحوّلت أجزاء من «المقطع» مع الوقت إلى ما يشبه المستنقع، قبل أن تُستكمل أعمال التنظيم والكورنيش لاحقاً.

جسر تاروت من جهة شارع شمال الناصرة

ومع افتتاح الجسر تغيّرت حياة أهالي الجزيرة جذرياً: أصبح الوصول إلى القطيف يتم في دقائق بالسيارة، وبدأت حركة العمران والتجارة والتعليم والصحة تتوسع بوتيرة أسرع، لتدخل تاروت مرحلة جديدة من اندماجها بشبكة الطرق في المنطقة الشرقية.

3 جسور تخدم جزيرة تاروت

لم يتوقف التطور عند الجسر الأول. خلال العقود التالية، تضاعفت الحاجة إلى منافذ إضافية مع تضخّم الكثافة السكانية في الجزيرة وتزايد الحركة بين البلدات والقطيف والدمام، ما دفع إلى إنشاء مزيد من الجسور البحرية، حتى باتت تاروت اليوم متصلة بالبرّ بثلاثة معابر رئيسة، كما تشير مصادر تعريفية بالجزيرة.

معبر فوق الواجهة البحرية

ضمن هذه المشاريع برز «الجسر الثالث» الذي يربط جزيرة تاروت بالقطيف عبر امتداد كورنيش القطيف، على الضفة الغربية من قناة تاروت. تقارير بلدية ومواد صحافية سابقة توضح أن المشروع صُمم ليكون جسراً خرسانياً بطول يقارب 500 متر، منها 350 متراً فوق المياه المفتوحة، وبعرض كلي يصل إلى 30 متراً، يتضمن ثلاثة مسارات في كل اتجاه، إضافة إلى أرصفة للمشاة بعرض لا يقل عن 4 أمتار في كل جانب. 

ونُقل عن مسؤولي بلدية القطيف أن هذا الجسر يهدف إلى تخفيف الاختناقات المرورية على شارع أحد، وتسهيل الربط بين شمال الواجهة البحرية وجنوبها، إلى جانب كونه عنصراً جمالياً وحيوياً في مشروع تطوير الواجهة البحرية للمحافظة. وتُقدَّر التكلفة الإجمالية للمشروع بحوالي 90 مليون ريال، بحسب تقارير نشرت عند بلوغ نسبة الإنجاز 13% مطلع العقد الماضي.

جسور الشرقية.. من المحلّي إلى الإقليمي

في الموازاة، شهدت سواحل الشرقية مشاريع بحرية أخرى تجاوزت بعدها المحلي لتربط المملكة بدول الجوار، أبرزها «جسر الملك فهد» الذي افتُتح عام 1986، بطول يقارب 25 كيلومتراً، ليربط جنوب مدينة الخبر بقرية الجسرة في مملكة البحرين، ويصبح أحد أهم شرايين الحركة التجارية والسياحية في المنطقة.

جسر الملك فهد

هذه المشاريع عزّزت الخبرة السعودية في بناء الجسور البحرية الطويلة، وفتحت شهية المخططين لمزيد من المشاريع على امتداد الساحل، كان نصيب محافظة القطيف منها بارزاً في السنوات الأخيرة.

جسر صفوى – رأس تنورة البحري

على الامتداد الشمالي الشرقي لمحافظة القطيف، يتقدّم اليوم مشروع يُوصف بأنه أكبر الجسور البحرية المزدوجة في المملكة: جسر صفوى – رأس تنورة البحري. المشروع يمثّل حلقة رئيسة في استكمال طريق صفوى/ رأس تنورة، ويربط مدينة صفوى الساحلية بمدينة رأس تنورة التي تحتضن واحداً من أقدم وأهم الموانئ النفطية في العالم.

مواصفات هندسية لافتة

وفق بيانات رسمية صادرة عن فرع وزارة النقل والهيئة العامة للطرق، يتضمن المشروع: 

جسرًا بحريًا مزدوجًا بطول 3.2 كيلومترات فوق مياه الخليج العربي.

جسراً علوياً فوق دوّار صفوى بطول نحو 300 متر.

استكمال طريق بري بطول يقارب 15 كيلومتراً، مع أعمال إنارة وحواجز خرسانية وعناصر سلامة مرورية.

وتشير البيانات إلى أن نسبة الإنجاز في المشروع تجاوزت 97% منتصف عام 2025، وأن الأعمال الخرسانية والإنارة أُنجزت بالكامل تقريباً، مع توقع الانتهاء من جميع الأعمال بنهاية العام ذاته. 

تقارير صحافية حديثة تحدّثت أيضاً عن تركيب اللوحات الإرشادية على طول الطريق، تمهيداً لافتتاح الجسر رسمياً خلال أسابيع، وذكرت أن التكلفة الإجمالية للمشروع قاربت 470 مليون ريال.

الأثر على الحركة والاقتصاد

سيسهم الجسر الجديد في تقليص المسافة بين الظهران والجبيل ورأس تنورة، عبر مسار بحري مباشر، بدلاً من الالتفاف عبر طريق الدمام – الجبيل السريع، ما يعني اختصار عشرات الكيلومترات زمنياً واقتصادياً، وتخفيف الضغط المروري على الطرق القائمة.

زيارة وزير النقل لجسر راس تنورة قبل أشهر

كما يفتح المشروع آفاقاً أوسع لربط المدن الساحلية في القطيف بشبكة طرق عصرية متكاملة، تعزز حركة الموظفين في قطاعات النفط والغاز والخدمات اللوجستية، وتدعم السياحة البحرية في رأس تنورة وساحل القطيف معاً.

من تاروت إلى رأس تنورة.. خطّ زمني واحد

إذا تبعنا الخط الزمني من جسر تاروت الأول إلى جسر صفوى – رأس تنورة، يمكن قراءة مسار كامل من التحوّل في علاقة المجتمع بالبحر:

من العبور المرهق والخطر عبر «القاري» والمقطع إلى أول ربط بري آمن في أوائل الستينيات. 

من جسر واحد بسيط الردم إلى شبكة من ثلاثة جسور تربط تاروت بالقطيف، وتحوّل الجزيرة إلى امتداد حضري طبيعي للمحافظة. 

ومن مستوى محلي إلى إقليمي مع جسر الملك فهد، الذي وضع الشرقية على خريطة الجسور العملاقة في الخليج. 

وأخيراً إلى جسر بحري مزدوج بطول 3.2 كيلومترات يربط صفوى برأس تنورة، ويُتوقَّع أن يصبح الأكبر من نوعه في المملكة عند اكتماله، بحسب ما تفيد به البيانات الرسمية والأخبار الحديثة. 

بين البداية والنهاية تكتب المنطقة الشرقية فصلها الخاص مع البحر: من حاجزٍ طبيعي يفصل بين اليابسة والجزيرة، إلى ممرّ معبّد يربط المدن والقرى ويختصر الزمن، ويحوّل الخليج من عائق جغرافي إلى مساحة مفتوحة للتنقل والفرص الاقتصادية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×