وداعاً للشيخ عبدالحميد العباس

منتظر الشيخ
ما أكثر ما يستقبل الناس الصباح، وما أكثر ما يودعون المساء، لكن قليلاً من يتأمل ما يمضي بينهما من لحظات تتشكل فيها مصائر البشر، وفي واحدة من تلك الساعات التي تقع بين الصبح والمساء، اختار الله فقيد سيهات، سماحة الشيخ عبدالحميد العباس، ليرحل عن هذه الدنيا الفانية.
أبو محمد، الرجل الذي تربيت منذ صغري وأنا أجلس تحت منبره، أستمع لمحاضراته ونعيه، وأرتوي من سكينته وصدقه، عرفته متواضعاً كما لم أر أحد مثله، وتواضعه لم يكن تكلفاً ولا ادعاء؛ كان تواضعاً يدفعه أن يعتذر لطفل شعر أنه أخطأ في حقه ويعد ذلك فضيلة لا حرجاً، بل كان يصعد المنبر ليصحح ما قاله ويتراجع عنه بجرأة العالم وصراحة المؤمن، فيهبنا درسا في الرجوع إلى الحق.
كان الشيخ محباً للعلم، داعياً إليه، يجل أهله ويحمل لهم التقدير. لا يعادي أحداً ولا يستعدي أحدا، ويقف بين الفتن كابن اللبون؛ لا ظهر فيركب ولا قرن فينطح. ومع ذلك كانت تصله سهام الحقد من حيث لا يحتسب، فتفتك به كما تفتك الريح بالشجرة الطيبة التي لا تظلم أحداً.
وكان معيناً لذوي الحاجة، محبا للفقراء، عطوفاً على الصغار والكبار، يبذل جهده بصمت، ويعطي دون أن ينتظر جزاء ولا شكر، تلك الأيدي الرحيمة، وذلك القلب الواسع، هما ما بقي في ذاكرة من عرفوه أكثر من أي خطبة أو درس.
وكان يعلّمنا أنه ليس نبياً ولا معصوماً، بل رجل وضع نفسه لخدمة الدين وعلومه، وهو في النهاية بشر مثل سائر الخلق، ولو أمكن للإنسان أن يستدرك الماضي ويمحو ما فات، لراجع الكثير مما قال وفعل؛ لكن القضاء نافذ لا مرد له، فإذا حمّ قص جناح القطا، وما نحن إلا صيدا يطلبه الموت حيث توجه ويظفر بنا حيثما اعتصمنا.
وفي هذا يلوح في القلب قول أبي العلاء المعري في الموت وفلسفته:
غيرُ مُجدٍ في ملّتي واعتقادي
نوحُ باكٍ ولا ترنم شادِ
وشبيهٌ صوتُ النعِيِّ إذا قيسَ
بصوتِ البشيرِ في كل نادِ
وكأن الشيخ رحمه الله كان يذكرنا دائما بأن الموت يقين، وأن البقاء لله، وأن الإنسان ظل عابر تعريه السنون وتجمعه يد القدر ساعة تشاء.







