وسائل التواصل الاجتماعي.. هل تعالجنا أم تعيد تشكيل وعينا؟

نضال آل مسيري*
لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد مساحة للترفيه؛ بل تحولت إلى مرآة رقمية تعكس مشاعرنا، وتقترح محتوى يبدو وكأنه يعرف ما نفكر به قبل أن نصرّح به. ومع هذا التحول تتشكل أسئلة جوهرية حول تأثيرها في وعينا وصحتنا النفسية.
ولفهم العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي، يجب أن ندرك أن الذكاء الاصطناعي هو المحرّك الخفي لهذه المنصات؛ فهو الذي يختار، ويقترح، ويعيد تشكيل وعينا الرقمي دون أن نشعر. ومن المهم التمييز بين الذكاء الاصطناعي والخوارزميات؛ فالذكاء الاصطناعي هو التقنية الكبرى، بينما الخوارزميات هي الأدوات التي يستخدمها لتحليل سلوك المستخدم واقتراح المحتوى. بهذا المعنى، لا يمكن فصل وسائل التواصل الاجتماعي عن الذكاء الاصطناعي، لأن الأولى تمثل الواجهة، والثاني هو العقل الذي يقف خلفها.
وعندما يشاهد المستخدم محتوى يتعلق بالقلق أو العلاقات أو اضطرابات الشخصية أو الاكتئاب مثلًا، تبدأ الخوارزميات في تقديم محتوى مشابه. وبمرور الوقت، تتشكل لديه “خريطة وعي” — أي النمط المتكرر للمحتوى الذي تتوقعه المنصة بناءً على ما يشاهد ويتفاعل معه — مما يقوده للتفكير بشكل أعمق في مشاعره وسلوكياته. هذه العملية تُنتج بنية معرفية رقمية، أي طريقة تُعيد بها المنصة ترتيب أفكاره واهتماماته وفق سلوكه الرقمي، فيشعر أن المحتوى يعكس حياته الداخلية بدقة.
ولكن علينا أن نعي أن هذا ليس علاجًا سريريًا. هو توعية عامة يقدمها الذكاء الاصطناعي بشكل غير مباشر. نحن لا نتعالج عبر وسائل التواصل الاجتماعي … بل نستثمرها كوسيلة تساعد على الفهم الأولي، وتُسرّع الوصول إلى المعلومات النفسية، وتدفع البعض إلى طلب المساعدة المتخصصة.
ورغم أن مصطلح “العلاج عبر وسائل التواصل الاجتماعي” غير معتمد علميًا، إلا أن أبحاثًا حديثة — منها ما نُشر في Journal of Medical Internet Research (2025) — تشير إلى أن المحتوى النفسي التعليمي يسهم في تحسين الوعي الذاتي عند بعض المستخدمين. لكن تأثيره مرتبط بوعي الشخص نفسه، لا بالمنصة.
العلاج الحقيقي يحتاج إلى تقييم سريري دقيق، وأدوات تشخيصية معتمدة، ومقاييس نفسية، وخطة علاجية فردية. المحتوى الرقمي قد يفتح الباب… لكنه لا يحل محل العلاج.
كيف تستطيع الخوارزميات تحليل مشاعر الناس؟
الخوارزميات لا تعرف “من أنت”، لكنها تفهم “كيف تتصرف”. فهي تتبع مدة المشاهدة، والتفضيلات، وأنواع المقاطع، وأوقات النشاط. ومن هذه الأنماط تُشكّل بصمة سلوكية تُستخدم لتخصيص المحتوى بما يتوافق مع حالتك الذهنية.
لكن هذه الآلية قد تتحول إلى سلاح ذي حدّين؛ فإذا كان المستخدم يعيش حالة حزن، ستغذيه المنصة بمحتوى مشابه يزيد من تركيزه على المشاعر السلبية. وهنا تظهر “مرآة الألم” — أي أن المنصة تعكس مشاعرك السلبية وتعيد تدويرها بدل أن تساعدك على تجاوزها — فتبدو وكأنها تؤكد الألم بدل تخفيفه.
مثال سلبي:
قد يبدأ شخص بمتابعة مقطع واحد يتحدث عن القلق، فتبدأ المنصة بعرض محتوى مشابه. ثم يجد نفسه محاطًا بعشرات المقاطع التي تكرر مخاوفه. وهكذا تتحول المنصة من مساحة للاطلاع… إلى مرآة مضخّمة لحالته النفسية.
مثال إيجابي:
وفي المقابل، قد يواجه شخص يعاني من اضطراب في الشخصية — مثل الشخصية الهستيرية — نقصًا في المعرفة حول حالته. وبعد مشاهدة مقطع واحد يشرح هذا الاضطراب، تبدأ الخوارزميات بعرض محتوى تعليمي متخصص، فيزداد وعيه بسلوكه وطرق التعامل معه. هنا تصبح المنصة وسيلة مساعدة لفهم الذات بدل تضخيم القلق.
المنافع
ورغم المخاوف، فإن لوسائل التواصل منافع لا يمكن تجاهلها؛ فهي تزيد الوعي بالسلوكيات والعواطف، وتُشعر المستخدم بالانتماء، وتساعده على اكتساب مهارات إدارة الذات، كما تقدم فهمًا أوليًا للمشكلات النفسية عبر محتوى بسيط وسريع الوصول.
المخاطر
في المقابل، تواجه هذه المنصات تحديات واضحة، أبرزها الإفراط في استهلاك المحتوى النفسي، وانتشار المعلومات غير دقيقة، وتكوين هوية مبنية على التحليل الذاتي فقط، إضافة إلى الخلط بين الفهم والعلاج مما قد يؤخر طلب المساعدة المتخصصة. لذلك يصبح الوعي في الاستخدام أساسًا مهمًا: اختيار مصادر موثوقة، والتحقق من صحة المعلومات، وتجنب الاعتماد على المحتوى كبديل للعلاج.
مرآة الذكاء الاصطناعي… هل تعكس الحقيقة أم ما نريد أن نراه؟
ومع تطور دور منصات التواصل في تشكيل وعينا، يظهر جانب أكثر عمقًا في تأثيرها، وهو ما يمكن تسميته بـ مرآة الذكاء الاصطناعي.
فالخوارزميات تقوم بتحليل نفسي غير مباشر؛ تكشف ما يجذبك وما تتجنبه وما يتكرر في سلوكك. هي لا تملك نية العلاج، لكنها توفر مرآة إلكترونية تعكس ما يحدث داخلك. وكما تعكس المرآة ملامح الوجه، تعكس الخوارزميات ملامح النفس — لكنها لا تكشف كامل الصورة. فهي تعكس ما تظنه مهمًا بناءً على بياناتك، وليس مشاعرك الحقيقية.
ومن هنا يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي لا يعالجنا… بل يعكسنا. فهو يظهر لنا أجزاء من ذواتنا نغفل عنها، لكنه لا يمتلك القدرة على الإرشاد النفسي الكامل. لذلك تبقى مسؤولية الوعي على الإنسان… لا على الخوارزمية.
التلاعب العاطفي في خوارزميات التطبيقات
منصات التواصل لا تكتفي بمراقبتك، بل تبرمجك دون أن تشعر. فهي تقيس انفعالاتك، وتحلل مزاجك، وتقترح محتوى يزيد من بقائك أطول أمام الشاشة. وفي هذه المعادلة، لست مجرد مستخدم… بل جزء من منظومة البيانات التي تعتمد عليها المنصة في تشكيل تجربتك الرقمية.
فكل ثانية تقضيها، وكل إعجاب أو تمرير، يتحول إلى معلومة تُستثمر في إعادة صياغة وعيك وفق منطق المنصة… لا وفق احتياجك النفسي الحقيقي.
من المنتديات إلى الخوارزميات: رحلة التعبير النفسي عبر الإنترنت
قبل وسائل التواصل الاجتماعي بشكلها الحالي، كانت المنتديات والأسماء المستعارة مساحة آمنة للتعبير عن الذات، ساعدت كثيرين على كسر حاجز الخجل وبناء الثقة. اليوم، تطور هذا الدور بشكل أعمق؛ فالذكاء الاصطناعي أصبح الوسيط الجديد الذي يعيد صياغة التجربة ويقدّم لكل مستخدم عالمًا نفسيًا مصغّرًا داخل شاشة هاتفه.
قد لا تكون وسائل التواصل الاجتماعي علاجًا بالمعنى الطبي، لكنها تجربة تستحق التأمل. فكل تفاعل إلكتروني يحمل معنى يمكن أن يساعدنا على فهم ذواتنا. لكن الفهم وحده لا يكفي؛ العلاج يبدأ عندما يتحول هذا الوعي إلى قرار عملي باللجوء للتقييم المتخصص.
ويبقى السؤال مطروحًا:
هل نتحكم نحن في خوارزمياتنا… أم نسمح لها بأن تتحكم فينا؟
فالخوارزميات لا تصبح واعية… إلا عندما نُصبح نحن أكثر وعيًا بطريقة تأثيرها فينا.
ـــــــــــــــــــــــــــ
*مختص بالتقنية ومهتم بأمن المعلومات








