هيرمينوطيقةُ الكِتابة: مُختَبَرُ الانكِشاف وشَجاعةُ “الوجع المألوف”

عبير السماعيل
تأمل في العلاقة بين الكاتب والكلمة، بين الوعي والحرف حين يتحوّل كلاهما إلى مرآة للذات.
حين يكتب الوعي عن نفسه، لا يتركنا كما كنا.
بدأ الأسبوع الماضي، حين نشرتُ مقالي “الطمأنينة المبرمجة”، وكانت الكلمات خروجًا من صمتٍ طويل.
لم يكن المقال سوى تساؤلٍ فلسفيٍّ حاد: لماذا يختار الداخل — تلك الساحة الشاسعة للصراع والاختيار — أن ينجذب للمألوف، حتى لو كان مصدرًا لألمٍ متكرر؟ هل يكفي الوعي وحده لإحداث وقفة التغيير الصارمة؟
ذلك السؤال لم يأتِ هذه المرة من الفكر، بل من عمقٍ أبعد، كأن الذاكرة نفسها قررت أن تُعيد إليّ ما دفنته فيها: دراسةٌ قديمة عن آليات الاختيار، تركتُها تذوب في العتمة، لأنها كانت تقترب من منطقة الوجع التي تجيد التنكّر بالألفة.
حين استمعت الأسبوع الماضي إلى دراسةٍ شبيهة بها، شعرت كأن يدًا ليست ملكي تمامًا قد امتدت لتسحب الملف المغبّر من قبو الذاكرة، فتساقط الغبار الذهني ببطء، كأنه رمال زمنٍ مسكوب، ليُكشَف وجه الحقيقة المخبوء تحته.
كأن الوعي ذاته قرر أن يسلّط كاميرته على تلك الزاوية التي خبأتها عن نفسي طويلًا.
وفجأة، لم أكن مجرد قارئة؛ رأيت نفسي ضمن المجموعة التي كانت تختار المنتج… لكن الأمر لم يكن منتجًا هذه المرّة، بل أشخاصًا وعلاقات.
كانت لحظةَ مرآةٍ قاسية، أدركتُ فيها أن الصراع الداخلي ما زال ينتظر اعترافًا من الروح.
الوعي حين يُمسك بك فجأة، لا يطرق الباب أبدًا؛ إنه يدخل دون استئذان، مُسلّطًا ضوءه على زوايا في دهاليز الجسد (القالب المادي) كنتُ أظن أني خبأتُها جيدًا.
وسألت نفسي حينها: إلى متى سيبقى هذا الخيار المألوف يُعيد إنتاج نفسه في الحاضر؟
كنتُ أعتقد أن الموضوع خرج من قلبي، أو لعلّه طُوي من روحي، إلى أن…
الكتابة: شجاعة وضع الذات تحت المجهر
…وصلني تعليق عميق من الأستاذ عبدالله المسيان للمقال. كان التعليق مرآةً صغيرة.
الوعي حين يقرّر الإمساك بك، لا يطرق الباب أبدًا؛ إنه يدخل دون استئذان، مُسلّطًا كشافًا قويًا على زوايا في دهاليز الجسد كنتُ أظن أني خبأتُها جيدًا.
إنه يضيء تلك الأماكن التي سُمِح فيها لـلوجدان بأن يختار بناءً على رغبةٍ عابرة أو خوفٍ قديم، بدلاً من نور الروح.
وسألت نفسي حينها، في تلك اللحظة الحرجة من الانكشاف: إلى متى سيبقى هذا الاختيار القديم يُعيد إنتاج نفسه في الحاضر؟
منذ أن بدأت أكتب، أدركت أن أصعب قرار لا يتعلق بجمالية الكلمة، بل هو أن أضع نفسي تحت المجهر.
أن أسمح للحبر أن يكون مرآةً وميزانًا في الوقت نفسه، أن يزن الصدق ويكشف الوجه.
بدأتُ رحلة تجريد الذات من أقنعتها، لا لأدينها في محكمة الإحساس، بل لأفهمها وأفكك آليات عملها.
لم يكن هذا قرارًا سهلًا، فهو يتطلب نفس الجسارة التي تحدث عنها الفيلسوف سقراط حين ألّف جملته البسيطة والمُركّبة معًا: «اعرف نفسك بنفسك»، وهي مهمة تبدو سهلة لكنها تظل أصعب تكليف يمكن أن يواجه الإنسان.
إنه الانقلاب الذي يراه كارل غوستاف يونغ ضروريًا، حيث أن مواجهة “الظل” فينا هي البداية الحقيقية للنضج، لأن ما نرفض رؤيته داخلنا، سيعود حتمًا ليرانا من الخارج عبر تفاعلاتنا مع العالم.
وقد اختصرها نيتشه ببراعة حين وصف تلك اللحظة بـ«الانقلاب إلى الداخل»، اللحظة التي يتوقف فيها الإنسان عن محاولة تفسير العالم الخارجي ليبدأ في فكّ شيفرات عالمه الداخلي.
الكتابة: مختبر العين الداخلية
كل هذا التفكيك الداخلي بدا لي كأنه يُعيد تعريف الكتابة ذاتها؛ فالكتابة، في جوهرها، ليست مجرد حرفةٍ أو براعةٍ في صياغة الجُمل، بل تجربةُ وعيٍ مُتجددة.
أن تكتب يعني أن تجرؤ على دخول مختبرك الداخلي في كل مرة تجلس فيها أمام الورق أو الشاشة البيضاء.
في مشهدٍ سينمائي، يدٌ تمسك بالقلم بتوتّر، لكنها تكتب بحتميّةٍ لا تملك منها فكاكًا، كأن الكلمة هي من تقود الحركة لا الأصابع.
هنا، في هذا المختبر المضيء بصدقٍ جارح، عليك أن تُفكّك ما ظللت تهرب منه لسنوات، وتعيد تركيب ذلك العُمق العاطفيّ المكسور بصدقٍ يوجعك لكنه يُحرّرك من وهم السلام الزائف.
إنها عملية جراحية للنفس، تتطلب شجاعةً فائقة لكسر قيود العادة، ووقف قوة الجذب التي تشدّنا نحو ما يؤلمنا لمجرد أنه مألوف.
فما قيمة التغيير إن لم نمتلك الجسارة لنعلن انفصالنا التام عن الأقنعة التي سكنت الجسد؟
وكيف لنا أن نكسر المرآة التي تعكس وجوهًا يجب أن نبتعد عنها كي لا نُشدّ إليها بقوة ذكرياتٍ مضلِّلة تسكن ذاكرة الشعور؟
ربما أصعب رحلةٍ في الحياة ليست في تغيير التضاريس والأشياء حولنا، بل في تغيير الشخص الذي يحدّق فينا من عمق المرآة — الشخص الذي عليه أن يستمدّ قوته من الروح ليَعبُر صراعاته الداخلية.
ذلك هو التغيير الحقيقي، الذي لا يُقاس بالخطوات، بل بالشجاعة.
امتنان لـ “مساحة الشفاء المشتركة”
وفي نهاية كل رحلة introspection (استبطان) قاسيةٍ كهذه، أدرك أن الامتنان لا يكون موجّهًا للكتابة بوصفها أداة فحسب، بل مرسَلًا للقارئ الذي يمنح هذا العبور الداخلي معنًى.
فبعد أن ترتاح اليد أخيرًا على الصفحة، وتتّسع العينان في إدراكٍ هادئ، تدرك أن أعظم ما يمكن أن يجمع الكاتب بالقارئ ليس الإعجاب بالنص، بل لحظة اعترافٍ مشتركة تكسر جدران العزلة.
إنها اللحظة التي نكتشف فيها أننا لسنا وحدنا في هذا الصراع الذي دار في أعماقنا، وأن ما نحمله من قلقٍ أو ضعفٍ أو ارتباك ليس غرابةَ كائنٍ من كوكبٍ آخر، بل نبضٌ بشريٌّ أصيل يتكرّر — يثبت أن المشاعر التي نخشى البوح بها، يسكنها آخرون مثلنا، حتى لو لم يقولوا ذلك بصوتٍ مسموع.
ففي اللحظة التي يرى فيها القارئ جزءًا من ظله ينعكس في نصّي، يتحوّل النص من تجربةٍ فرديةٍ مؤلمة إلى مساحة شفاءٍ مشتركة تعبّر عن الروح الإنسانية الجامعة.
شكرًا لأنكم منحتم هذا النص حياةً إضافيةً بقراءتكم الواعية له.
وشكرًا لأنكم جعلتموني أؤمن أن الكتابة — في جوهرها العميق — ليست سوى محاولةً نبيلةً لئلا نشعر أننا وحدنا على هذا الكوكب.
ومضة أخيرة
أحيانًا، لا يكون الحرف لنا، بل نحن له.
ينساب كما يشاء، كأنه الوعي نفسه وقد وجد صوته.








