سيرة طالب 119] نكبة أدبيّة

الشيخ علي الفرج

حين كنتُ في دمشق، وامتدّ بيني وبين صديقي وأبي الأدب السيّد مصطفى جمال الدين حديثٌ تُداعب أطرافه ذكريات الشعر وهموم القلم، سألته:

– ما رأيك لو نطبع الأعمال الشعرية الآن؟

فابتسم ابتسامة العارف بالتجارب، وقال بصوتٍ يحمل ثقل السنين:

– لا تفعل. لا تطبع ديوانك الآن. إنك في عنفوان عمرك، والتجربة لا تُختصر في حماسة البدايات. دع القصيدة تنضج فيك، كما ينضج الوجع في القلب. أما أنا، فلم أجمع ديواني إلا حين بلغت السبعين، بعدما استوت التجربة على نار العمر وتطاير صيتها بين الناس.

كلماته علقت في صدري كندبةٍ من حكمة، فألغيتُ عزمي على الطباعة طوال مقامي في دمشق، كأنّ نصيحته غيمةٌ ظليلة أطفأت جموح اندفاعي.

ومضت الأعوام حتى انتقلتُ إلى قمّ، حيث عاد الحنين إلى الورق يشعل في داخلي جذوة الهمّة، فنويت أن أجمع ديواني. كان كلّه مكتوبًا بخطّ يدي، فليس لي يومها حاسوب أستنطقه بالحروف.

جلستُ أعصر فكري بحثًا عن اسمٍ يليق بروح القصائد، حتى غلبني التعب ونمت.

وفي الحلم رأيتني أطبع ديواني، وقد ارتسم على غلافه عنوانٌ غير مألوف: «أصداء النغم المسافر».

استيقظتُ كمن لامست روحه برق الإلهام، فدوّنت الاسم سريعًا.

بعد أيام، رويتُ لصديقٍ لي القصة أي رغبة الطباعة، فاقترح أن أتواصل مع أحدهم من له باع في الطباعة.

فاتصلتُ به، فاستقبلني بكلمةٍ طيبة وقال:

– بخدمتكم، أرسل ديوانك ب(الفاكس)، وستصل إلى بيروت لصفّه بالحروف الحديثة.

كنت أعلم أن الصفّ لا يُغني عن مراجعة المؤلف، وأن الحروف لا تُؤتمن ما لم تمرّ على عين كاتبها، لكنّي صدّقتُ نبرة الاطمئنان.

ومضى شهرٌ أو أكثر، فإذا باتصالٍ يأتي من أحد المعارف ممّن له صلةٌ بطباعة الكتب، يقول بصوتٍ ملحّ:

– أريدك أن تأتي إليّ بسرعة البرق، الأمر عاجل.

أسرعتُ إلى مجلسه، وفي ذهني ألف احتمالٍ عن سبب دعوته. لم يخطر ببالي أنّ الأمر يتعلّق بديواني.

دخلتُ عليه، فوجدتُ على الطاولة كتابًا وحيدًا في زاوية المجلس، وعنوانه يسطع بخطٍّ أنيق:

«أصداء النغم المسافر – علي الفرج».

تجمّدتُ لحظةً، وكأنّ الغلاف يُحدّق فيّ بوجهٍ لا أعرفه.

قلت مذهولًا:

– طُبِع الكتاب؟!

ابتسم وقال بثقةٍ باردة:

– نعم، بحمد الله تمّت الطباعة.

قلتُ وقد ضاق صدري:

– ولكنّي لم أراجع المسوّدة بعد!

فقال مطمئنًا، كأنّ الحروف لا تُخطئ:

– إن شاء الله لا يوجد فيه أي خطأ.

امتدت يدي إلى الكتاب، وبدأت أقرأ…

لم تمضِ سوى ربع ساعة، حتى أخذت أُقلّب الصفحات بإسراع لا بدقة، وجدت ثلاثين خطأً يصفع بصري.

كأنّ الحروف تمردت على روح القصيدة، وانقلب النغم نشازًا في أذني. شعرتُ أنَّ جهدي الذي سكبته من عرق القلب، قد تسرّب بين أنامل الطابعين بلا رحمة، وأنّ «أصداء النغم المسافر» عاد إليّ غريبًا، غريبًا حتى عن ظلي.

فاتصلتُ بالشخص الذي طبع الديوان، وقلبي يغلي بالدهشة والمرارة، فقلت له:

– كيف تُطبع النسخة دون مراجعة المؤلف؟!

فأجابني بنبرةٍ هادئةٍ لم تُطفئ نار الأسى في صدري:

– أنا الذي راجعتُ الكتاب، رغبةً في تسهيل أمرك. نعم، في موردين فقط استنبطتُ المعنى فوضعتُ لفظًا من عندي، لأنه غير واضح في الفاكس.

صرختُ فيه بحرقةٍ مكتومةٍ تشقّ عمق القلب:

– هذه نكبة! نكبة أدبية بكل ما تعنيه الكلمة.

ألْغِ هذا الكتاب، لا تنشره، لا تُبقِ له أثرًا… احرقه، أو أعدمه.

كنتُ أشعر أن كل حرفٍ في تلك الصفحات ينزف من اسمي جرحًا، وأنّ «أصداء النغم المسافر» لم يعُد نشيدي، بل مرثيتي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×