مطبوخ الكرورو: إكسير الأبدان طبخات على فنّات الخشب

حسن دعبل
يرد في كتاب “قدحة النار” لريتشارد رانغهام، أن النار هي التي طورت الإنسان، إذ أتاحت له الطهو، ووفرت له في طعامه المطبوخ الطاقة الفائضة التي ساعدته على زيادة حجم دماغه، وجمعته مع أقرانه حولها، لتزيد من صفاته الاجتماعية المعروفة.
تلك نظرة لعلَمٍ بارز في ميدان الدراسات الأنثروبولوجية الحياتية. والانتقال من الطعام النيّء إلى الطعام المطبوخ؛ هي نار الأنثربولوجيا التي أضاءت دروب الكتابات والدراسات.
حتى الأطعمة المطبوخة؛ لها أيضاً من السرديات ما يُعطى لها من كتابة وتأويل لمنشأ وقدحة نارها قبل القدور. فلكل طبخةٍ منشأ، كما لكل دخان نار، ومكان تشتعل به الأنفاس، وتصرخ بها البطون.
إذاً هي الأطعمة بطبخاتها وتحولاتها وكيميائية الممزوج والمخلوط والمُضاف، أو كما يحلو لبعض الطارئين على المطابخ غير المكشوفة تسميتها خيمياء النكهات.
الخيمياء عبارة مُفخّمة في المعاني.
مطبوخ الكرورو واحد من الطبخات الخيميائية في الطبخ قبل الوصف، وفي تماهيه بين الأسياف، وبساتين النخيل. قُطفت ثمرته اليافعة من غصن شجرتها، كما للتو تفتحت وقدّحت جلنار الرائحة. فهي الموصوفة في القطف قبل النضج، وقبل البلوغ.
فاق بها الوصف لِلحُدّث قبل نهوض الكواعب.
تُنشر الثمرات اليافعة مصفوفة على خوص النخيل أو فوق حصرانٍ مُتيبّسة حُرمت من الأفياء، وغسلتها السواقي قبل أن تتقصّف ويتكسر خوصها المسفوف بكفوفٍ دامية من إبرها وقت الاخضرار.
تؤخذ الثمرات الصغيرة من الرّمان بعد يباسها، فتتلقفها هاونات مُصفرة، وتضربها بإيقاعات متنافرة بصوت الحنين مُتفتتة ومطحونة؛ قبل أن تُهدى وتُصاغ بالتشهي المنغوص.
تتقاسمها الأماكن البعيدة قبل القريبة من بساتينها وشجيراتها المحمولة بالثمار، وما تساقط من غصون أوان النضج والمواسم.
أيضاً هناك مواسم الصيد في البحر دخوله وطلوعه، وهبوب الرّياح وحركة الكواكب والنجوم وتداخلها وسير الماء، وليالي القمر في مده وجزره حتى مُحاقه ومغيبه. الأسماك أيضاً يصابها الهزال في الدخول، وبعضها يسمن ويطيب بِلحُه في الطلوع.
ذاك عِلمٌ عظيم وعلوم في قراءة منازل القمر وحركة كواكبه السيارة، وما تتركه وتصبغه على الأبدان في الأكل وملذاته ومباهجه.
لذا؛ اهتدى أصحاب تلك المهنة بفطرة الطبيعة الخلاّقة في التذوق والتمعن والإبصار من غير علومٍ تعلموها، إنما اكتسبوها بحسيّة ملموسة مُتذوّقة، ومُتبدّلة بسير الانواء والفصول والأحوال.
فنّة الهامش:
الكرورو: ثمرة الرمان في أول تفتح زهرتها، تُقطف صغيرة الحجم في راحة اليد، تُفرش لها حصيرة في فناء البساتين، تحت سماء شمس حارة وصافية، حتى تتيبس ثم تُدق في هاون لتتحول إلى بودرة عطرة كالحناء. وهناك طرق تقليدية في تجفيفها، وتكويرها، حتى دقها بالهاون إلى بودرة وحفظها عند أصحاب الصنعة والمهنة.
مرقة المطبوخ: مصبوغة بيودها الطافح والطافي بلون العنبر، وخيميائية خلطاته السرية، غير المكتوبة، والمتوارثة من الأسلاف المحفوظة في الأفئدة. مصبوبة في الصحون بعد طبخها بطاقة الأنفس الفائضة بأسرار الطبيخ من غير تقدير ومقادير. تُرش بالأيدي بلا مكيالٍ وميزان، إنما بالعين وبصيرتها، وبصرها ميزان “الويَم”.
الصورتان: سمچ بياح لابطة سابحة في أوان دخولها ، وبُصيلات ناهضة بلمعان مرقةٍ تشعّ باليود. لِبياح هي السمچة المكتوبة والمنذورة لمرقة المطبوخ في أول نسمات ولسعات برد الشتاء.










