قواعد الأدمغة واحدة.. واللغات العصبية مختلفة

ترجمة: عدنان أحمد الحاجي
كيف يرى شخص الشيء كما يراه غيره بالضبط؟ تخيّل أنك جالس مع صديق في مقهى، وكلاكما تنظران إلى مقطع فيديو لكلب يجري بالقرب من الشاطئ. مع أن كل دماغ من دماغيكما عالمٌ قائم بذاته، متكون من مليارات الخلايا العصبية في مناطق دماغية مختلفة ومتصلة مع بعضها بروابط مختلفة تمامًا وتجري فيها أنواع من الأنشطة العصبية الفريدة من نوعها، إلا أن كليكما تصفان ما رآيتماه على أنه: “كلب يجري بالقرب من الشاطئ”. كيف يمكن لدماغين مختلفين كهذين أن يؤديا إلى نفس الإدراك الحسي (نفس التفسير لنفس المُدخلات البصرية)؟ هذا سؤال عميق في علم الأعصاب وفلسفة العقل عن كيف ينشأ الإدراك الحسي والمعنى والواقع المتفق عليه بين الناس.
قام فريق بحثي مشترك من جامعة ريتشمان ومعهد وايزمان للعلوم بدراسة كيف يرى المرء الشيء كما يراه غيره بالضبط، مع أن دماغ كل منهما مصمم بشكل مختلف وفريد. كل صورة نراها وكل صوت نسمعه (المدخلات الحسية) يشفّر في الدماغ، وذلك من خلال تنشيط وحدات معالجة دقيقة تُسمى الخلايا العصبية، التي تُشكل شبكة معالجة عصبية في الدماغ – أي أن كل ما نراه أو نسمعه يُترجم إلى نشاط دماغي يمكّننا من إدراكه حسيًا (إي نسمعه ونراه، وما إلى ذلك) والتفكير فيه والاستجابة له.
يحتوي الدماغ البشري على 85 مليار خلية عصبية متصلة ببعضها. وكل خلية من هذه الخلايا العصبية هي أصغر حجمًا من شعرة رأس إنسان بعشر مرات.

السؤال الجوهري الذي حير باحثي الدماغ لسنوات هو كيف يتم هذا التشفير. فإذا كان دماغ كل شخص يُشفّر المعلومات (المدخلات) الحسية بشكل مختلف عن الأدمغة الأخرى – أي أن أنماط النشاط العصبي الدقيقة تختلف بين الأدمغة – فكيف يُمكننا جميعًا أن نتفق على أن ما يدركه شخص حسيًا (لنفس المُدخل الحسي) هو بالضبط ما يدركه غيره؟
فريق البحث، بقيادة جامعة ريشمان، ومعهد وايزمان، شرع في مراقبة كيف تشفر الخلايا العصبية في الدماغ المعلومات (المدخلات) الحسية بشكل آني (في الوقت الحقيقي). تُعد هذه المهمة الأصعب في القياس والتحليل، إذ لا توفر معظم أجهزة تصوير الدماغ سوى صورة منخفضة الدقة، تُشبه صورة الأقمار الصناعية لإحدى المدن، حيث لا يُمكن إلّا رؤية الطرق السريعة والمباني الكبيرة، ولا تستطيع رؤية الناس في الطرقات، ما يعني إنه لا يمكن رؤية التفاصيل الدقيقة جدًا للنشاط العصبي. نُشرت الدراسة (1) في مجلة Nature Communications.
للتغلب على هذه الصعوبة في التصوير العالي الدقة، اعتمد الباحثون على مصدر فريد للبيانات: مرضى الصرع الذين زُرعت أقطاب كهربائية في أدمغتهم لأسباب طبية. بالرغم من أن هذه الأقطاب غرست لمساعدة الأطباء على تحديد مراكز نوبات الصرع، إلّا أنها أتاحت للباحثين أيضًا فرصة نادرة للاطلاع على نشاط الخلايا العصبية في الدماغ، حيث أنها سُجلت بشكل مباشر (تسجيل حي) أثناء مشاهدة المرضى صور مختلفة.
وجد الباحثون أنه، على غرار الشبكات العصبية الاصطناعية المستخدمة في الذكاء الاصطناعي، تختلف أنماط النشاط العصبي الخام في أدمغة البشر من شخص لآخر. بمعنى آخر، عندما ينظر شخصان إلى نفس الصورة – صورة قطة، مثلًا، فإن الخلايا العصبية النشطة ليست هي نفسها في دماغي كلا الشخصين. لذا، بالرغم من أننا جميعًا نرى القطة، إلا أن الشفرة العصبية وراء هذه الرؤية فريدة بكل دماغ من أدمغتنا، حيث يستخدم دماغ شخص مجموعة من الخلايا العصبية لتمثيل قطة، ومجموعة أخرى لتمثيل كلب، بينما يستخدم دماغ شخص آخر خلايا عصبية مختلفة تمامًا.
لكن النتيجة المذهلة هي عندما انتقل الباحثون من دراسة النشاط الخام للخلايا العصبية (حيث بدا نشاط دماغ شخص مختلفًا عن نشاط دماغ شخص آخر) إلى مراقبة العلاقة بين أنماط النشاط العام فيها (أي مدى قوة استجابة الدماغ إجمالاً لمشاهدة قطةً مقارنةً بمشاهدة كلب)، وجدوا أن العلاقة بين أنماط النشاط (مدى استجابة الدماغ ككل لأشياء مختلفة) هي علاقة متماثلة بشكل ملحوظ بين الأشخاص. على سبيل المثال، إذا كان النشاط العام لأحد الأدمغة استجابةً لقطّةٍ أشبه باستجابته لكلبٍ من استجابته لفيلٍ مثلاً، فمن المرجح أن تكون هذه العلاقة نفسها قائمةً في جميع أدمغة الآخرين. وهذا يفيد بأنه وبالرغم من أن دماغ كل شخص يعمل بشكل مختلف على المستوى العصبي، إلا أن أدمغة الناس تنظم المعلومات بطرق متماثلة، مما يشكل بنية نشاط عصبي مشترك لكيف يدركون نفس المدخلات الحسية ويفسرونها بنفس التفسير.
بمعنى آخر، قد لا تكون أنماط النشاط الفعلية في الأدمغة المختلفة متطابقة، لكن العلاقة بينها تبقى قائمة. ما يشترك فيه الدماغان هو العلاقة من المتشابهة (أو الاختلاف) بين المدركيِّن حسيًا – فـ “قطة” و”كلب” أكثر تشابهًا من تشابه أي منهما مع “فيل.” أنه بالرغم من أن دماغ كل شخص يُنشّط خلايا عصبية مختلفة عند معالجة نفس الصورة (أو الصوت)، فإن العلاقات بين هذه النشاطات – البنية العامة للتمثيل العلائقي بين الأشياء [مثل أي الأشياء أكثر تشابهًا أو أيها أكثر اختلافًا، حيث أن العلاقة بين تمثيل القطة وتمثيل الكلب في الدماغ علاقة متماثلة تقريبًا (التمثيل العلائقي أو خريطة)، وكلاهما مختلفان كثيرًا عن تمثيل “الفيل”] – يدركها شخص كما يدركها آخر بنفس الإدراك الحسي.
وقد يكون هذا التمثيل العلائقي هو أسلوب الدماغ في تنظيم المعلومات بحيث يفهم جميع البشر المدخلات الحسية ويفسرونها بنفس التفسير، حتى مع اختلاف التشفير العصبي الأساس لكل شخص منهم.
إذن فالتمثيل العلائقي أو الخريطة العلائقية هي “خريطة المعاني” الداخلية للدماغ، والتي تُبين مدى ارتباط الإدراكات ببعضها البعض – وهذه البنية المشتركة هي التي تساعد جميع الناس على فهم نفس المدخلات الحسية بنفس الفهم ويفسرونها بنفس التفسير.
هذه الطريقة في الإدراك الحسي تشبه وجود لهجات مختلفة، ولكن بما أننا نشترك في نفس البنية (القواعد) اللغوية نستطيع أن نتبادل التواصل والتفاهم بيننا. وبذلك قد لا تتحدث أدمغتنا بنفس اللغة العصبية لكنها تشترك في نفس القواعد وتفسر المدخلات الحسية بنفس التفسير.
“تُقرّبنا هذه الدراسة خطوةً نحو فك شيفرة “الرمز التمثيلي” للدماغ – وهي اللغة التي تخزن بها أدمغتنا المعلومات وتُنظّمها،” كما أوضح عوفر ليبمان Ofer Lipman. “يُسهم هذا الفهم ليس فقط في تطوير علم الأعصاب، بل أيضًا في تطوير الذكاء الاصطناعي: فالأفكار حول كيف يقوم الدماغ بتمثيل المعلومات يُمكن أن تكون مصدر إلهام لتصميم شبكات عصبية اصطناعية أكثر كفاءةً وذكاءً، والعكس صحيح – يُمكن للشبكات العصبية الاصطناعية أن تُولّد أفكارًا تُعمّق معرفتنا بالدماغ”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
1- https://www.nature.com/articles/s41467-025-62551-x
المصدر الرئيس
https://medicalxpress.com/news/2025-10-brain-reveals-neural-common-perceptions.html#google_vignette









