تلويحة قديمة لأبي كرم.. بَشَعَني ثم كسرتُ خاطره..! شبل كشافة.. كاتب محكمة.. تاجر كتب.. مأذون أنكحة

حبيب محمود

.. الزمان: يوم من أيام العام 1404هـ،

.. المكان: قرطاسية عوّام..!

.. عنوان القصة: بَشَعَني .. ثم كسرتُ خاطره..!

وأظنّ أن هذه القصة لا تصلحُ مرثيةً، ولا تأبيناً؛ ألبتّة. على القصة المناسبة في وداع “أبو كرم”؛ أن تكون مرحةً، وذات ابتسامات جانبية، وفيها كثيرٌ من التمرير لطريقة “عوامية” خاصة في تناول أشياء ـ ربما ـ لا يمكن تناولها بجدّيةٍ أو تقطيب..!

حسناً، حسناً.. دخلتُ “قرطاسية عوام” الواقعة على مسافة قصيرة جداً من بيتنا “الصنادق” في “فريگ لـِفْتيّة”. في يدي نسخة من قصيدة “أين حقّي”. وقتها لم أكن أعرف شاعرها العراقي السيد محمد صالح بحر العلوم (1909 – 1992)، ولا قصة القصيدة الخطيرة.

كلُّ ما عرفته هو أنها تُشبه رباعيات إيليا أبو ماضي “لستُ أدري”. وشعرتُ بثورية الرباعيات العراقية، وسخطها، وتشخيص أورام الواقع..

وهي ـ بعد هذا وذاك ـ جميلة، وذات حس غنائيٍّ قاذع جداً..!

ليتني أستطيع بعث الوعي في بعض الجماجمْ

لأريح البشر المخدوع من شر البهائمْ

وأصون الدين عما ينطوي تحت العمائمْ

من مآسٍ تقتل الحق وتبكى: أين حقي؟!

ومنها:

دولةٌ يُؤجَر فيها كل أفّاك عنيدِ

أجرُهُ لا عن جهودٍ بل لتعطيل الجهودِ

لم يواجه نعمة الأمة إلا بالجحودِ

وإذا النعمة تغلى في حشاه: أين حقي؟!

ومنها أيضاً:

أيها العمال أين العدل من هذى الشرائع..؟

أنتم الساعون والنفع لأرباب المصانع

وسعاة الناس أولى الناس في نيل المنافع

فليطالب كل ذي حق بوعي: أين حقي؟!

قرطاسية عوام في الثمانينيات (المصدر: فيس بوك)

والمطلوب الذي أعرب عنه الصبي ـ الذي هو أنا ـ هو تصوير القصيدة..!

لنأخذها خيالاً؛ ولنقل إنه تصوير قصيدة بكلّ ثوريتها وغضبها في قرطاسية داخل العوامية، وفي في العام 1404هـ.

حتى بالخيال؛ يمكن وصف تصوير هذه القصيدة ـ بالذات ـ بأنها جريمة “معلوماتية” بمقاييس زمننا. صحيحٌ إن القصيدة تشخيص خاص بالواقع العراقيّ، وليس لنا علاقة مباشرة بذلك الواقع، بيد أن محتواها قابلٌ لأن يُعامَل كـ “منشور سياسي” صريح. و “محمّد علي الصالح”؛ لا يضع نفسه فيما يمكن وصفه فخّاً، ساءت النية.. أم حسُنت..!

نيّتي؛ كانت أكثر براءة من تعقيدات ذلك العام الحساس. والرجل الذي كنت أرفع رأسي 45 درجة لأخاطبه ـ بحكم طوله وقِصَري ـ لم يكظم انفعاله، وخرج عن طوره تماماً، و “بشَعَني” محذّراً من مغبّة تصوير مثل هذا الشعر “السياسي”.

وبنبرة صوت صبي لم يتخطّ السادسة عشرة؛ حاولتُ إقناعه برغبتي البسيطة، إنها قصيدة أحببتُها، وعليّ تصويرها وإعادة الأصل لصاحبه. ثم تركتُ له مجال تفريغ الانفعال، وتقهقرتُ نقاشاً وجدالاً، وكأنني انكسرتُ، أو “تغبّنت”..!

وحين شعر بـ “غبْنتي”؛ تدرّج في هدوئه. ربما “كسرت خاطره”، ربما أحس بأنه بالغ في انفعاله.. عدتُ إلى منزلي مسروراً بتصوير القصيدة.. وما زلتُ أحتفظ بنسخ منها، حتى الآن.

ما تبقّى من حي الفتية عام 2016

(2)

رحم الله أبا كرم.. محمد علي صالح الصالح. كان نبأ وفاته، أمس، صادماً جداً. فأنا من جيل نشأ وهو يشاهده وآخرين، بوصفهم مثقفين سبقونا إلى عالم المعرفة. سبقونا إلى القراءة، سبقونا إلى الكتابة، سبقونا إلى مهارات كانت بعيدة عن تناولنا. وبالذات في نادي السلام. مثله مثل المرحوم حامد السعيد، ومحمد سعيد الربح، ومحمد سعيد النمر، ووجوه كثيرة كانوا “ارجال” ونحن في يفاعة الحياة.

و”قرطاسية عوام” كانت مشروعاً صغيراً بعد مشروعه الأكبر “مكتبة الشريف الرضي” في شارع الملك عبدالعزيز في القطيف. وأتذكّر أنني كنت من زبائنها حتى ما قبل منتصف الثمانينيات. ولا أعرف كيف اختفى هذا المشروع، وكيف اكتفى “محمد علي” بـ “قرطاسية” صغيرة يتسلّى فيها والده، رحمه الله، في “عصاري لـفْتيّة”، ويجالسه “شيّاب” الحيّ..!

(3)

لكن “محمد علي” كائنٌ متحرّك، متنقل، ولديه مرونة عالية في التعاطي مع التحوّلات. ربما كان من الناس الذين يتخذون قرارهم بلا تردد. قد يربح، قد يخسر، ليس هذا المهم. المهمّ هو ألا يبقى راكداً أو ساكناً. وفي بعض مراحل حياته؛ كان “كاتب ضبط” ـ أو وظيفة من هذا القبيل ـ في محكمة الأوقاف والمواريث، في عهد الشيخ عبدالحميد الخطي، رحمه الله.

ثم افتتح مكتب محاماة في “الجراري”. ثم اتجه إلى العمل مأذون أنكحة.

لم تكن حياة الرجل سهلة، لكنه ليس من النوع الذي يمكن أن ينكسر، أو يستسلم. ويبدو لي أن خفة ظله وتفكّه روحه؛ ساعداه على تمرير كثير من الأمور بما يُشبه الاستخفاف والاسترخاء. وأظنّ أن ذلك تأتّى وراثةً عن المرحوم والده المعروف بطريقته الضاحكة المُضحكة في تشخيص بعض الأمور، مزاحاً أو ملاطفة.

كثيرون مثلي؛ شهدوا أحاديث والده المرحوم على عتبة “قرطاسية عوام” مع “الشيّاب” الآخرين. كان ينفض الكآبة عن الجلسة بتحويل الأمور الجادة إلى شيءٍ يُشبه المرح.

وهكذا كان “محمد علي”.. تغمّده الله برحمته، وربط على قلوب ثاكليه.

مصدر الصور: شقيقه زكي الصالح

‫2 تعليقات

  1. رحم الله الحاج أبوشيخ كرم
    كنا نراه في فريق الجنوبي بهيبة المثقف، وسبق المتنوّر الذي تجاوز زمانه.
    يجمع بين الوقار حيناً، والنكتة البديعة حيناً آخر، فلا يُملّ حديثه ولا يُنسى حضوره.
    ومن المواقف التي لا أنساها، أنه في زواجي عام 1403هـ، لم أره في الأيام الأولى، ثم جاءني بعد أيام مباركاً ومعتذراً بلطفٍ جمّ، إذ كان حينها في معسكرٍ كشفيّ.
    رحمه الله، وجعل ذكراه عطرة كما كان حضوره دائماً.

  2. الله يرحمه جار وصديق ونعم الرجال ورجل مكافح اللهم اسكنه فسيح جناته ويرحمه برحمته الواسعه وتعزيتي لعائلته الكريمه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×