سيرة طالب 118] بوح البدايات
الشيخ علي الفرج
تفتّحتْ الحياةُ بي باكرًا، وكان عمري يحبو في عتبة العاشرة، حين آنَ للعقل أن يرسخ جذوره في تربة الوعي.
فإذا بالهوى والشوق يهيبان بي أن ألتحق بركب العلماء الربانيين، وأنا بعدُ في مطالع الطفولة، لم أجاوز العشر سنين، أو زدت قليلًا، أو نقصت.
ومنذ تلك اللحظة التحفتُ بالعشق، وراودني حلمُ السفر إلى النجف، مهوى الحُلْم ومثابة العِلْم.
وحين أتممتُ دراستي الثانوية، سارعتُ إلى مفاتحة والدي العزيز (رحمه الله) برغبتي، فكانت أول مكالمة منه جوابَ القبول والرضا، فإذا بالفرح يطير بي طيرانَ الحمام حين تُبشَّر بالانطلاق نحو فضاءٍ طالما تاقت إليه.
ومن باكورة قصائدي، نسجتُها قبل أن أبلغ العشرين، وفيها تفيض الروح شوقًا متّقدًا إلى الالتحاق بركب العلم في رحاب الغريّ، قبل أن تتهيّأ الخطى لرحلة الواله نحوها.
وحين فرغتُ من نسجها — وهي قصيدة وجيزة من ستة أبيات — أنشدتُها لأخلّائي، أمّا الصديقُ الأديبُ الحبيب حبيب المحمود الصحفيّ، فقد بلغتْه القصيدةُ على صفحة الورق، فاستثارته نبراتُها، وجاراني يومئذٍ بقصيدةٍ بديعة أنيقة في زمنٍ كان الأدبُ فيه محجمَ الإبداع، وكان هو يومها في مطالع العشرين من عمره.
قصيدتي بعنوان (بُحْ ما كتمتَ):
بُحْ مَا كَتَمْتَ مِنَ الْهَوَى وَاسْتَبْشِـرِ
فَأَنَا وَأَنْتَ مِنَ الْهَوَى فِي مَعْشَـرِ
مَا شَاقَكَ الرَّشَأُ الْبَهِيُّ وَلَمْ تَكُنْ
صَبًّا وَلَسْتَ بِوَالِهٍ مُتَحَيِّرِ
لَكِنَّمَا ذِكْرُ الْغَرِيِّ يُجَاذِبُ الْقَلْـ
ـبَ الْمَشُوقَ وَيَسْتَهِيمُ وَيَشْتَرِي
يَا مَوْطِنَ الشَّرَفَيْنِ: عِلْمِ مُحَمَّدٍ
يَكْسُو خَلَائِقَهَا وَقُبَّةِ حَيْدَرِ
حَتَّى مَ أَغْدُو خَلْفَ سُورِ عَلَائِقِي
وَعَلَى ثَرَاكَ أَرُوحُ غَيْرَ مُسَوَّرِ
عُذْرًا لِمَوْطِنِيَ الْحَبِيبِ فَإِنَّنِي
أَطْوِي مَسَارِحَهُ وَقَلْبِيَ فِي الْغَرِي
مجاراة الشاعر الأديب حبيب محمود:
قَالُوا: عَشِقْتَ وَفِي عُيُونِكَ آيَةٌ
تُوحِي بِأَنَّكَ مُولَعٌ فِي جُؤْذَرِ (*)
فَأَجَبْتُهُمْ: مَا شَاقَ قَلْبِي شَائِقٌ
أَوْ هَاجَ وَجْدِي طَيْفُ طَرْفٍ أَحْوَرِ
لَكِنَّمَا هَبَّتْ نَسَائِمُ شَمْأَلٍ
أَوْدَتْ بِقَلْبِي ذِكْرَ سَالِفِ أَعْصُـرِ
عَبَثَتْ بِرُوحِي الذِّكْرَيَاتُ فَرَاحَ بِي
طَيْفُ الْخَيَالِ أَمَامَ قُبَّةِ حَيْدَرِ
وَمَنَاهِلٍ مِنْ عِلْمِ آلِ مُحَمَّدٍ
وَعَمَائِمٍ أَكْرِمْ بِهِمْ مِنْ مَعْشَرِ
وَزَمَانُ صَفْوٍ حُلْوَةٌ أَيَّامُهُ
وَرَبِيعُ عُمْرٍ كَانَ بَيْنَ رُبَى الْغَرِي
مَنْ لِي بِعِشْقٍ لَا يُورِّثُ مَأْثَمًا
وَهَوًى إِذَا طَاوَعْتُهُ لَمْ أَخْسَـرِ
يَا لَائِمِيَّ لَقَدْ كَشَفْتُ سَرِيرَتِي
هَذَا هَوَايَ عُذِرْتُ أَمْ لَمْ أُعْذَرِ
1409ﻫ
(*) الجُؤْذُرُ: مفرد، وجمعه جَآذِرُ. وهو اسمٌ يُطلق على المَهَاةِ، وهي البقرةُ الوحشيّةُ الإفريقيّةُ ذات القرون المستقيمة أو المنحنية قليلًا. تُشبَّه بها العيونُ في بهائها واتّساعها، إذ إنّ عينَيِ المَهَاةِ كبيرتان مكحَّلتان في غاية الحُسن والرِّقّة. ولذلك يُستعمل لفظ الجُؤذر في الأدب كثيرًا كنايةً عن الجمال الفاتن والفتوة والرَّشاقة.