الأثر الذي يخلق الاستثناء.. من خشبة المسرح إلى وجدان العالم
عبير ناصر السماعيل
ليس في كفّي ذهبُ الملوك، لكنّ في صدري حرفًا يشقّ الأبديّة… وحدها الكلمةُ تعبرُ الأرواحَ حين يصدأُ الزمن.
الجزء الأول: صرخة الوجدان العارمة
تُفتَح اللقطة على صدى صوتٍ يهزّ أركان المكان. ليس مجرد ضجيج، بل رجفة في الهواء، إيقاع متسارع يخرج من حناجر الآلاف. الكاميرا تركّز على الاهتزاز في زجاج الأضواء.
الجمهور بصيحةٍ واحدة لا تعرف التردد، يطالبون بالاعتراف الأقصى: “GOLDEN BUZZER! الزر الذهبي! GOLDEN BUZZER!” صرخات تتوالد وتتصاعد، تغرق صوت الحكام الذي يحاول السيطرة.
أستمع إليهم في خضم هذا الطوفان، وهم يتمتمون بضعف أمام جبروت الوجدان الجارف، محاولين شرح الإجراءات: “لقد استنفدت الفرص للأزرار الذهبية، No more golden buzzers, we used them all. لا نستطيع تقديم المزيد!” يا لدهشة المشهد! كيف تصمد الإجراءات أمام نار القلب المشتعلة بالإعجاب العفوي؟، تلك الهتافات التي كسرت اللحن، لم تكن مجرد إعجاب، بل كانت صرخة روحية تطالب بالعدل المطلق للجمال والتأثير، هذا ما يسميه بعض الحكماء بـ “قوة الإجماع الروحي”؛ فالأثر الصادق يفرض منطقه الخاص.
صرخات الجمهور كانت برهانًا لا يُدحض على أن الراقص قد نجح في العبور من قالبه الجسدي إلى القلب في كل من شاهده، إنه تأثير يرفض الزوال، ولهذا استجاب له الزر — وكأنه يقول “الأثر الصادق يخلق استثناءً في الإجراءات.”
الجزء الثاني: جسدٌ ناقص.. وروحٌ كاملة
تتحول اللقطة من الجمهور الصارخ إلى الراقص الواقف على خشبة المسرح. الصمت يخيّم على المكان، كأن الأنفاس جميعها تنتظر المعجزة، فلنعد إلى مصدر هذا الفيضان العاطفي.
لم يكن في الرقص ما يُفسَّر بالعقل؛ فكل التفافةٍ، وكل قفزةٍ في الهواء، وكل انحناءةٍ، وكل نظرةٍ عابرةٍ حملت شيئًا لا يُقال، كأن الجسد كله قد تحوّل إلى ترجمانٍ للروح، وكأن الموسيقى انسكبت من الداخل لا من مكبّرات الصوت، كانت الحركة أشبه بنداءٍ غامض، كأن شيئًا فينا يُستَدرَج للبوح، شعرتُ أن المسرح لم يعد مسرحًا، بل ساحة كشفٍ بين الإنسان وقدرته على النهوض من تحت الركام، ثم كانت المفاجأة…
حين انحنى الراقص في نهاية العرض، أدركتُ أن ما ظننّاه إتقانًا خارقًا كان في الحقيقة انتصارًا على النقص، رغم فقدانه إحدى ساقيه، لم يفقد قدرته على التحليق، لقد رقص على ساقه المتبقية كما لو كان يرقص على جناحٍ من نور، وجعل من العكازين بديلًا لساقه المبتورة، يُلوّح بهما كامتدادٍ للجمال لا كرمزٍ للعجز.
الرقص، هذا الفن الذي يتطلب اكتمال الجسد، تحوّل على يده إلى تحدٍّ صارخ للمستحيل. لم يكن عرضًا لحزنٍ أو تعاطف، بل بيانًا صامتًا عن اكتمال الروح رغم نقصان الجسد.
كل نبضةٍ من قلبه كانت ترقص، تخترق العقل الذي يحسب، والعين التي تلاحظ العجز، والسمع الذي ينتظر موسيقى فقط، لتستقر في أعماق الوجدان، ذلك الفعل يجسّد قول الفيلسوف آرثر شوبنهاور في العالم إرادة وتمثّلًا “الجمال يكمن في إرادة الحياة غير القابلة للكسر.”
الجزء الثالث: مرآة الأثر الباقي والتساؤل العميق
فجأة، تتوقف صرخات الجمهور، تُغلَق الهواتف، وتتلاشى إضاءة المسرح. يتحول المشهد إلى لقطة قريبة على وجهي، العيون ملأها الدمع الذي لم يُذرف حزنًا، بل تأثّرًا، و تجلّيًا، تتغير الإنارة، يتحول الضوء الصارخ إلى نور شاشة الحاسب الهادئ، الذي يضيء غرفتي الصغيرة، أجلس أمام لوحة المفاتيح، تتسرب الذكريات والأفكار إلى الكلمات لتُحفظ في صفحات رقمية.
كلّ فجرٍ يولد من جرح المساء، يُعيد ترتيب الظلال على جدران الروح، والضوء ذلك المتسكّع الأبدي، يطرق نوافذي من زاوية لم أعرفها بالأمس، يقول لي أنت لستَ الذي كنتَه، والشغف ليس وجهًا واحدًا يتجمّد في المرايا، بل نهرٌ يتشكّل بملامح كل صباح، يروي عطش الحلم الذي رفض أن يشيخ.
أعرفُ ما أبتغي لا كمن يقرأ خارطة، بل كمن يشمّ رائحة الوطن في الريح، أريدُ أثرًا لا اسمًا محفورًا على رخام يبرد، ولا صدى صوتٍ يتلاشى في الممرات، بل بصمةً تنبض في صدور من لم ألتقهم، شيئًا يظلّ حيًّا حين أغيب، أن أُحدث فرقًا، ليس كمن يُزيح حجرًا من طريق، بل كمن يزرع غابةً في صحراء اليأس، كمن يُشعل نارًا لا تنطفئ بالعواصف.
فرقًا يليق بما يؤمن به قلبي لا بما تُمليه الأصواتُ من حولي، أن أُقدّم شيئًا لا يذوب في الزمن، لا كالثلج تحت شمس الظهيرة، بل كالجبل الذي يحتضن السحاب، كالفكرة التي تصير نبضًا في عقل طفل لم يولد، كالحب الذي يتجاوز الأجساد إلى المعنى، ومع ذلك، هناك صدى خافت يمرّ في داخلي “هل أستطيع أن أُحرّك الجمهور؟ هل أستطيع أن أُحدث الأثر؟”.
ليس شكًّا، بل تساؤل الروح حين تقترب من الحلم. فربما لا أعرف الجواب ما لم أكتب، ولن أكتب لأُثبت، بل لأحاول أن أترك أثرًا، أن أُحرّك جمهورًا أوسع من حدود المسرح — جمهور العالم.
الكلمة هي جسدي الآخر، والكتابة رقصتي التي لا تحتاج إلى خشبة، بل إلى صدقٍ يُشعل الضوء من الداخل، وكما يرى كارل يونغ في الإنسان ورموزه حين يخلق الإنسان من ذاته أثرًا صادقًا، فإنه لا يعبّر عن فرديته فحسب، بل يُحرّك شيئًا جمعيًّا في الوعي الإنساني، كأن العمل الصادق جسرٌ بين الأرواح.
وفي حضرة هذا التجلي العظيم، لا يبقى سوى السؤال الذي يُطلق الروح من قيود الحاضر، كيف يمكن للكلمة أن تصبح رقصةً على خشبة الوعي؟، وكيف يتحوّل الأثر من محاولةٍ إنسانية إلى رسالةٍ كونية؟.