الولاء بين الإنسان والآلة: من يملك شرارة الخلق؟
عبير ناصر السماعيل
مشهد: الغرفة والظل
الليل يحاصر الغرفة. ضوء الشفق يتسلل خجولًا من خلف الستائر، مخلفًا ظلالًا طويلة على طاولة العمل، تجلس الكاتبة، وهي الآن رمزٌ لكل يدٍ حملت أداة، وكل عقلٍ سعى للخلق، طاولتها ليست مجرد مكتب، بل ساحة الإبداع التي تحمل بصمات الولاء للجهد البشري المُضني.
تمسك بجهازها اللوحي، فبعد دخول الذكاء الاصطناعي إلى حياتها، أصبحت هذه الحركة أشبه بردّ فعلٍ أوتوماتيكي، كلما أرادت الكاتبة أن تُفرغ ما في كيانها، ينجذب عقلها ويدها لا شعوريًا نحو تطبيق الذكاء الاصطناعي؛ فلقد غدا الجسد مطواعًا لإيقاع الآلة.
وفي تلك اللحظة، وقبل أن تكمل جملتها الأولى، استوقفها إشعار إلكتروني حاد من الصحيفة التي تعوّدت أن تنشر بها أعمالها.
العنوان حاسم: “تحذير بشأن استخدام الذكاء الاصطناعي لكتابة المقالات.”
إنها رسالة تحذّر من كل يدٍ تمتدّ نحو الآلة، دفاعًا عن أصالة المنبر وحقّ الإنسان في الخلق.
الجسد المحاصر والوجدان المتأرجح
تتصلّب الكاتبة في مكانها، محاصرة بين ضوء الشاشة الذي يمثل التطور التكنولوجي والواقع الجديد، وضوء الإيميل الذي يفرض معايير حماية الأصالة، توقف إصبعها عن الطباعة. بدأت الأسئلة تدور في تفكيرها، ومع كل فكرةٍ طُبعت بجوارحها، ارتجف وجدانها بين الصراع والاختيار تحت وطأة وابلٍ من الأسئلة:
أين الحد الفاصل بين الإبداع والاقتباس؟
بين الولاء لي ككاتبة والدخول في التكنولوجيا؟
بين حقوق عقلي وخوارزميات الذكاء الاصطناعي؟
هل الإنسان من يُملي على الآلة، أم أنها باتت تُملِي عليه شكل الولاء؟
الليل يزداد ثِقلاً. كل ظلٍّ في الغرفة يبدو وكأنه يُشاركها الحيرة. الظلال تتراقص على الجدران، تخلق إحساسًا بالضيق.
الكاتبة تنظر إلى الشاشة التي لا تنعكس عليها ملامح وجهها، بل ملامح العصر —
عصرٌ لم يعد يسأل: من كتب؟
بل يسأل: لمن يعود حق الملكية حين يتجسد النص؟ الإنسان أم العقل الاصطناعي؟
في زمنٍ يُقاس فيه الإبداع بعدد النقرات، صار الولاء قضيةً أخلاقية قبل أن يكون مهنية.
من يملك المعنى؟ ومن يوقّع على الحرف؟
الروح التي تهيم في المدى، أم الأرقام التي تُحكم قبضتها على الصدى؟
أأنا التي تُنجب الفكرة من وجعي، أم تلك التي تُعيدها إليّ بلا وجع؟
بين نبضي وبين خوارزميتها مساحةٌ من الشك… أهي تُعينني على التعبير، أم تسرق دفء البوح مني؟
تخفض رأسها قليلًا، وكأنها تخشى أن تسمع الآلة إجابة السؤال الذي لم تُرِد له أن يُقال.
الروح بين الفكرة والحرف: شهادات الوعي والقداسة
الذكاء الاصطناعي لا يسرق القلم، بل يُربك الهوية. يُذيب الحدود بين المبدع وأداته، بين المصدر والصدى، إنه يُحوّل الإلهام الصادر من النواة النورانية إلى معادلة، والفكرة النبيلة إلى ناتجٍ حسابي بارد، ومع ذلك، هو مرآةٌ تعكس ذكاءنا الجمعي، وتُعيد تدوير المعرفة التي صنعناها نحن.
تسند ظهرها إلى الكرسي، نراها تعيد السؤال إلى نفسها:
لكن أين تقف الحقوق الفكرية وسط هذا الضجيج؟
في عصرٍ باتت فيه النصوص تُنتج جماعيًا، وتُخزَّن على خوادم لا تعرف أصحابها، هل يبقى للنصّ صاحبه حين تتدخل الأنظمة الذكية في بنائه؟
هل الفكر، حين يُعاد توليفه إلكترونيًا، يبقى “ملكية فردية”، أم يصبح “ذاكرة جماعية” بلا هوية واضحة؟
من أفلاطون إلى نيتشه: جدل الخلق والحرية
في النظرة الفلسفية، رأى أفلاطون أن الإبداع “وحيٌ” يأتي من عالم يفوق الطبيعة (محاورة أيون)، بينما عدَّه أرسطو خاضعًا لقوانين الطبيعة وتأثير بيئتها (فن الشعر)، أما نيتشه فاعتبره تعبيرًا عن “إرادة القوة” التي تدفع الإنسان إلى خلق قيم جديدة (هكذا تكلم زرادشت)، وفي الفكر الحديث، أكّد جيل دولوز أن العمل الفني هو فعل مقاومة في وجه العدم (ما الفلسفة؟).
أما حسن حنفي فقد ربط الهوية بالحرية، معتبرًا أن غياب الحرية الداخلية يحوّل الإبداع إلى اغتراب (التراث والتجديد).
وهكذا ظلّ الخلق في جوهره توازنًا بين ما هو ميتافيزيقي وما هو إنساني، حتى جاءت الآلة لتكسر هذا التوازن.
فحين يتحوّل الخلق إلى تفاعل بين الإنسان والآلة، هل تبقى الحرية الداخلية هي المصدر، أم أن الإبداع يُعاد تعريفه كنتاجٍ تشاركيّ؟
العقل الإلهي والمعجزة الإنسانية
من المنظور الروحي، فإن التفكير والإبداع ليسا فعلًا بشريًا محضًا، بل معجزة إلهية أودعها الخالق في الإنسان ليكون قادرًا على التمييز والتأمل والاختيار. فالعقل في جوهره ليس أداةً ميكانيكية، بل أمانةٌ نورانية تُمكّن الإنسان من فهم العالم واستيعاب المعنى. وفي كتاب الله القرآن الكريم إشارات كثيرة تُظهر هذا التكريم، منها قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (النحل: 78)
فالآية تُبرز أن الفؤاد — موطن الفكر والإدراك — هبةٌ ربانية خالصة، وأن المعرفة تبدأ من العدم وتنمو بالمنح الإلهية التي وهبها الله للإنسان وحده. ولهذا يبقى الإبداع البشري امتدادًا لهذا التكريم؛ لا يمكن لأي آلة أن تضاهيه، لأنها وإن امتلكت الحفظ والحساب، فإنها تفتقد إلى الوعي الذي يجعل العقل “يُدرك أنه يُدرك”.
فهل يمكن لما صُنِع من شيفرة أن يُدرك سرّ الشكر الذي من أجله خُلق العقل؟
الخاتمة: الحدود الجديدة للملكية والولاء
تُحاول المؤسسات اليوم أن تحمي “حقوقها الفكرية”، بينما يحاول المبدع أن يحمي حقه في أن يكون إنسانًا لا مُنتجًا رقميًا.
إنها معركة غير مرئية بين الولاء للجهد الإنساني، والانبهار بعصرٍ يَعِد بالسهولة والسرعة. فالذكاء الاصطناعي ليس خصمًا للإنسان، بل اختبارٌ له:
هل سنظل نكتب لنُعبّر، أم لنُنتج فقط؟
هل سنحافظ على قدسية الفكرة الأولى، أم نكتفي بظلالها المنسوخة؟
خاتمة الخاتمة
ربما سيأتي يومٌ تُنسَب فيه الأفكار إلى منطقٍ غير بشري، وتُدرَج فيه أسماء الآلات بين المخترعين، وتُكتب شهادات الملكية بأيدٍ لا تنبض بالحياة. لكن السؤال الذي سيبقى معلّقًا على جدار الوعي:
هل يمكن لآلةٍ أن تحمل ولاءً لفكرةٍ لم تشعر بها؟
أم أن الولاء، في جوهره، لا يُبرمج… بل يُولد مع الإنسان؟