براءة مسكنات الألم من الإصابة بالتوحد..!

ترجمة: عدنان أحمد الحاجي

كتب المقدمة غسان علي بوخمسين، صيدلاني أول، مستشفى جونز هوبكنز 

تنصل من المترجم:

“دراسات، مثل هذه، تناولت جدلًا حول تأثير أو عدم تأثير مسكنات الألم في الاصابة بالتوحد؛ وقد نقلناها كما هي من منظور مؤلفتها، ونحن هنا لا نميل إلى أحد أطراف هذا الجدل الحامي. إنما كان هدف نقلنا لهذه المعارف هو تعريف القاريء العربي بما يدور في الساحة العلمية، خاصة بعد ما أثير جدل حول ما يتعلق بأحد مسببات اضطراب التوحد.

لا توجد أدلة علمية كافية تدعم الادعاءات الصادرة بالتحذير من استخدام مسكن ألم شائع الاستعمال أثناء فترة الحمل والتسريع من اعتماد دواء تجريبي لعلاج التوحد.

مقدمة غسان بو خمسين

أثارت الإدارة الأمريكية جدلاً واسعاً مؤخرًا ربط بين استخدام «البانادول» (أي الأسيتامينوفين / باراسيتامول) أثناء الحمل وارتفاع احتمال الإصابة بالتوحد، داعيةً الحوامل إلى تجنبه إلا في حالات الضرورة القصوى.  كما دعت إلى اعتماد دواء ليوكوڤورين (leucovorin) كعلاج محتمل لجانب من أعراض التوحد، مستندة إلى فكرة أن نقص الفولات داخل الدماغ قد يساهم بظهور خصائص طيف التوحد، وأن دواء ليوكوڤورين قد يعوض ذلك الخلل. التصريح أصبح حديث الناس في الأيام القليلة الماضية.

إذا أردنا تقديم رؤية نقدية لهذا القرار، يمكن القول، أن غالبية الدراسات هي دراسات رصدية (observational / cohort)، وليست تجارب معشاة (randomized trials)، لذا لا يمكنها أن تثبت العلاقة السببية بشكل حاسم.

في بعض الدراسات، التعرض للأسيتامينوفين يعتمد على التقارير التي تفيد بها الأم بعد الحمل، ما قد تتأثر إفادتها بتحيّز الاستدعاء (1) (recall bias).

استخدام تصميم مقارنة الأشقاء في بعض الدراسات أظهر أن بعض العلاقات التلازمية (correlations) بين الحمل وبين دواء الألم قد تُفسَّر بعوامل وراثية أو بيئية مشتركة، وليس بجرعة الأسيتامينوفين ذاتها. 

يمكن ملاحظة تباين كبير في جودة الدراسات (من حيث تقدير الجرعة، التوقيت، العوامل المربكة confounders التي يُحتمل أن تكون مؤثرة، جودة المتابعات، حجم العيّنات).

الدراسات التي استُشهد بها في البيان غالبًا ما تُعرض بعناوين وجود علاقة “تلازمية” ولا تثبت علاقة سببية causality بين الأسيتامينوفين والتوحد. في الواقع، حتى مراجعة Navigation Guide (طريقة منهجية للحد من التحيز وتعظيم الشفافية في تقييم المعلومات الصحية البيئية) تقول إنها تدعم وجود علاقة تلازمية لا علاقة سببية. 

بعض الجهات الأكاديمية والطبية – مثل الكلية الأمريكية لأطباء التوليد وأمراض النساء (ACOG) – رفضت أن يُصدر تصريح عام بأن الأسيتامينوفين يسبب التوحد، معتبرة أن الأدلة غير كافية لهذا المستوى من التأكيد.

التقرير المترجم

أعلنت الحكومة الأمريكية يوم الاثنين 22 سبتمبر 2025 عن مبادرتين تتعلقان بالتوحد. ستُحدّث الحكومة من ملصقات عبوات مُسكّن الألم الشائع “الباراسيتامول (2)”، المعروف أيضًا باسم “الأسيتامينوفين”، مُحذّرةً من أن استخدامه أثناء فترة الحمل قد يرفع من احتمال إصابة الأطفال باضطراب التوحد واضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة. كما ستعتمد دواءً يُسمى “ليوكوڤورين والمعروف أيضًا بحمض الفولينيك (3)” لعلاج بعض الأطفال المصابين باضطراب طيف التوحد. لا تستند أيٌّ من هاتين الخطوتين على نتائج علمية موثوقة ورصينة، ومن المُرجّح أن يكون تأثير هذين الدوائيين في معدلات الإصابة بالتوحد في الولايات المتحدة ضئيلًا.

أتى هذا الإعلان بعد أن تعهد مسؤول صحي في أمريكا، في أبريل 2025 بتحديد أسباب التوحد بحلول نهاية سبتمبر 2025. ووصفت الإدارة الأمريكية هذه المبادرات بأنها “خطوات تاريخية لمواجهة أزمة اضطراب التوحد” خلال مؤتمر صحفي.

يكشف هذا التأطير إما عن سوء فهم أو تحريف لما نعرفه عن اضطراب التوحد. لا توجد أزمة – فقد بدأت معدلات الإصابة بالتوحد في الارتفاع بسرعة في ثمانينيات القرن الماضي مع توسع معايير تشخيص هذه الحالة. وعلى مدى العقود القليلة الماضية، ساهم ارتفاع مستوى الوعي بأعراض اضطراب التوحد والتعرف عليها في ارتفاع أعداد المشخصين بالتوحد.

أما بالنسبة لسبب الاصابة بحالة التوحد، فلا توجد أدلة كافية تشير إلى أن الباراسيتامول هو المسؤول عنها. صحيح أن هناك دراسات كثيرة قد أشارت إلى أن استخدام الباراسيتامول أثناء فترة الحمل قد يرفع من احتمال إصابة الأطفال بالتوحد. وقد وجدت مراجعة حديثة (4) لـ 46 دراسة أن 27 منها تعرفت على تلازم مهم بين استخدام الباراسيتامول أثناء فترة الحمل وارتفاع احتمال إصابة الأطفال باضطرابات النمو العصبي (5)، مثل اضطراب التوحد. ولكن مجرد وجود تلازم بينهما لا يعني بالضرورة أن الباراسيتامول سبب للتوحد – فقد تكون هناك عوامل مؤثرة أخرى.

وهناك نتائج متضاربة وغير حاسمة من دراسات أخرى. على سبيل المثال، وجدت دراسة (6) نشرت عام 2024 أجريت على ما يقرب من 2.5 مليون طفل ارتفاعًا طفيفًا في احتمال الإصابة بالتوحد لدى من تعرضوا إلى الباراسيتامول أثناء حمل أمهاتهم بهم، ولكن بعد مقارنة الأطفال الذين تعرضوا لمسكن الألم بأشقائهم الذين لم يتعرضوا إلى الباراسيتامول أثناء الحمل، لم يعد هذا التأثير ملاحظًا (يقال اختفى هذا التأثير).

وصرح ديميتريوس سياساكوس Dimitrios Siassakos من جامعة لندن كوليدج في بيان صحفي: “التاريخ العائلي هو العامل المهم في الاصابة بالتوحد، وليس استخدام الباراسيتامول”. وأضاف: “أثبتت الأبحاث أن أي ارتفاع طفيف ظاهر [في الاصابة بالتوحد] نتيجة لتناول الباراسيتامول أثناء الحمل يختفي عندما تأخذ التحليلات في الاعتبار العوامل الأكثر أهمية،” مثل العوامل الوراثية (الجينتكس)، التي أفادت عقود من الدراسات بأنها العامل الرئيس المسبب لهذه الحالة.

خلال مؤتمر الصحفي، قالت الإدارة الأمريكية إنه لا ينبغي للنساء الحوامل تناول الباراسيتامول لعلاج الألم أو الحمى أثناء الحمل إلا إذا “لم يستطعن الصبر وتحمل الألم،” وأن “عليهن استشارة أطبائهن لمزيد من المعلومات.”بيد أن إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) أقرت في بيان صحفي (7) لم تُثبت علاقة سببية بين الباراسيتامول والتوحد، وقالت الـ FDA في إشعار للأطباء (8) إن الباراسيتامول ما يزال مسكن الألم الأكثر أمانًا والمتوفر على نطاق واسع للاستخدام أثناء الحمل. وأضافت: “إنه الدواء الوحيد الذي يُصرف دون وصفة طبية والمعتمد لعلاج الحمى أثناء الحمل، والحمى المرتفعة (أعلى من 38.3 درجة مئوية) لدى النساء الحوامل قد تُشكل خطرًا على أجنتهن.” الإصابة بالحمى أثناء الحمل لها علاقة بالولادة المبكرة (الولادة الخديجة) واصابة الجنين بعيوب خلقية، تعرف بعيب الأنبوب العصبي الذي يصيب الدماغ أو النخاع الشوكي (9 – 11).

أعلنت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) أيضًا أنها ستعتمد دواء ليوكوڤورين (12) للأشخاص الذين يعانون من نقص في حمض الفوليك الدماغي (13)، وهي حالة تحُد من امتصاص فيتامين B9 في الدماغ. تشير بعض الأبحاث إلى أن ما يزيد عن 40% من المصابين بالتوحد قد يُصابون أيضًا بهذه الحالة (14)، مما يُؤدي إلى أعراض مُشابهة، بما فيها مشكلات في التواصل [صعوبة في فهم اللغة أو التعبير عنها سواء أكانت المنطوقة أو غير المنطوقة أو المكتوبة] واضطراب التكامل الحسي (15).

دواء ليوكوڤورين، وهو أحد أشكال فيتامين B9، متوفر بالفعل لعلاج نقص هذا الفيتامين، بالإضافة إلى علاج بعض الآثار الجانبية لبعض أدوية السرطان. تشير القرائن الأولية إلى أنه قد يُحسّن بعض أعراض التوحد الشديدة أيضًا. على سبيل المثال، عالجت دراسة (16) نشرت عام 2016 ثلاثة وعشرين طفلًا مصابًا بالتوحد لديهم اضطراب في اللغة (17) باستخدام جرعتين من دواء ليوكوڤورين يوميًا، بينما تلقت مجموعة مُنفصلة من 25 طفلًا علاجًا وهميًا (بلاسيبو) (18). بعد 12 أسبوعًا، شهد 65% من الأطفال الذين تلقوا جرعات دواء ليوكوڤورين تحسنًا ذا دلالة سريرية في التواصل اللفظي مُقارنةً بـ 24% من الأطفال في المجموعة الضابطة، التي تلقت البلاسيبو.

لكن حتى حينه، جميع الدراسات التي تناولت دواء ليوكوفورين والتوحد بالدراسة محدودة (19)، ومعظمها قد أفاد بتحسن طفيف فقط. وتُجرى حاليًا تجربة سريرية أوسع نطاقًا، ومن المتوقع ظهور نتائجها العام المقبل. وصرحت مونيك بوثا Monique Botha من جامعة دورهام بالمملكة المتحدة في بيان صحفي: “أي دليل متوفر حتى الآن هو مبدئي جدًا ولا يُعتبر دليلًا رصينًا.” وأضافت: “بالرغم من أن الأدوية قد تساعد في جوانب محددة جدًا من اضطراب التوحد، فلا يوجد دواء أو علاج فعال يشفي من التوحد أو يستأصله تمامًا.”

بالرغم من ادعاءات البعض أن هناك تقدمًا ملحوظًا قد أحرز في علاج “التوحد” خلال فترةٍ وجيزة. لكن الدراسات العلمية تُفيد بأن تجنب الباراسيتامول أثناء الحمل أو تناول دواء ليوكوڤورين لن يُؤثر بشكلٍ معتبر سريريًا في عدم الاصابة باضطراب التوحد أو علاجه.

ـــــــــــــــــــــ

مصادر من داخل وخارج النص

1- https://ar.wikipedia.org/wiki/انحياز_الاستدعاء

2- https://ar.wikipedia.org/wiki/باراسيتامول

3- https://ar.wikipedia.org/wiki/حمض_الفولينيك

4- https://ehjournal.biomedcentral.com/articles/10.1186/s12940-025-01208-0

5- https://ar.wikipedia.org/wiki/اضطراب_النمو_العصبي

6- https://jamanetwork.com/journals/jama/fullarticle/2817406

7- https://www.fda.gov/news-events/press-announcements/fda-responds-evidence-possible-association-between-autism-and-acetaminophen-use-during-pregnancy

8- https://www.fda.gov/media/188843/download?attachment

9- https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK582757/

10- https://ar.wikipedia.org/wiki/عيب_خلقي

11- https://ar.wikipedia.org/wiki/عيب_الأنبوب_العصبي

12- https://www.fda.gov/news-events/press-announcements/fda-takes-action-make-treatment-available-autism-symptoms

13- https://ar.wikipedia.org/wiki/نقص_الفوليك_الدماغي

14- https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC8622150/

15- https://ar.wikipedia.org/wiki/اضطراب_التكامل_الحسي

16- https://www.nature.com/articles/mp2016168

17- https://ar.wikipedia.org/wiki/اضطراب_اللغة

18- https://ar.wikipedia.org/wiki/علاج_وهمي

19- https://www.clinicaltrials.gov/study/NCT04060030

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×