دراسة علمية تقدم إجابة: لماذا نصرّ على الخطأ..؟

ترجمة عدنان أحمد الحاجي
باحثون في جامعة نيو ساوث ويلز، بدأوا يكشفون النقاب عن سبب إصرار بعض الناس على الانخراط في سلوكيات، حتى بعد أن يُكشف لهم عن مواطن ضعفهم أو احتمال ضررها عليهم.
لماذا يصر بعض الناس على اتخاذ خيارات تضرهم، حتى لو كانت نتائجها الضارة جلية؟
خلصت دراسة جديدة، أجراها الدكتور فيليب جان ريتشارد ديت بريسيل Philip Jean-Richard-dit-Bressel من جامعة نيو ساوث ويلز في سيدني، إلى أن المشكلة لدى بعض الناس لا تكمن في نقص الدافع أو القابلية للتأثر بالانفعالات السلبية، بل تكمن في فشلهم الضمني لكنه المستمر في ربط أفعالهم وتصرفاتهم بعواقبها الضارة.
تُفصّل الدراسة (1)، التي نُشرت مؤخرًا في مجلة Nature Communications Psychology ، لعبة تعليمية بسيطة على الإنترنت، حيث يُطلب من المشاركين اتخاذ خيارات تؤدي إما إلى مكافأة أو عقاب (جزرة أو عصا).
ولاحظ الباحثون ثلاثة أنماط سلوكية مميزة تُحدد ما إذا كانوا قد خرجوا فائزين [بنقاط] أم خاسرين [للنقاط].
نمط سلوكي لأولئك الحساسين للعقوبة [الحساسية للعقوبة هي قابلية الفرد للتأثر بالانفعالات السلبية، كالخوف والقلق، وتثبيط السلوك استجابة للعقاب المحتمل أو الخسارة أو الفشل، وهي جانب من نظرية حساسية التعزيز (2)]، وهم القادرون على اكتشاف الخيارات التي تؤدي إلى نتائج سيئة أو غير مواتية وغيروا سلوكهم لتجنب تلك النتائج السلبية.
ثم جاء بعدهم النمط غير المدركين لعواقب تصرفاتهم – وهم الذين لم يكتشفوا الخيارات ويحتاجون إلى معلومات صريحة لا لبس فيها ليتمكنوا من تعديل استراتيجياتهم بمجرد أن يتبين لهم خطأ أساليبهم.
أما النمط الثالث – وهم أكثر من اهتم به الباحثون – فكانوا من ذوي السلوك الاندفاعي، الذين استمروا في اتخاذ خيارات خاطئة حتى بعد أن تبين لهم أن استراتيجيتهم خذلتهم وأدت إلى نتائج ضارة بهم.
وقال الدكتور جان ريتشارد دي بريسيل: “وجدنا أن بعض الناس لا يتعلمون ولا يستفيدون من تجاربهم. حتى عندما يكونون محثوثين على تجنب ضرر سلوكياتهم وكانوا متنبهين إلى ذلك، إلّا أنهم يفشلون في إدراك أن سلوكهم هو السبب وراء مشاكلهم [فشل في ربط النتيجة بالسبب].”
لعب المشاركون لعبة فيديو بسيطة، حيث أسفر اختيار كوكب من كوكبين عن الحصول على نقاط، بينما اختيار الكوكب الآخر أدى إلى فقدان تلك النقاط.
كيف جرت اللعبة؟
في اللعبة، طُلب من المشاركين النقر على أحد كوكبين، حيث يؤدي كل منهما إلى مركبة فضائية تُعطي نقاطًا أو تسترد جميع النقاط المتراكمة حتى حينه. لم تكن العقوبة مضمونة في كل مرة، ولكن بعد بضع جولات من التجربة والخطأ، استنتج المشاركون ذوو الفطنة – أو الحساسون للعقوبة – أن العقوبة جاءت فقط من كوكب معين، واستبعدوا هذا الكوكب من استراتيجيتهم. وفي هذا الأثناء، فشل غير المدركين أو غير الواعين وذوو السلوك الاندفاعي في ربط كوكب معين بالنتائج السلبية، لذلك استمروا في تحمل “العقوبة وخسارة النقاط” بين وقت وآخر.
ولكن بعد بضع جولات، كشف الباحثون لجميع المشاركين أي من الكوكبين أدى إلى أي سفينة فضاء، وأي سفينة تسببت في الخسارة العقابية.
قال الدكتور جان ريتشارد دي بريسيل: “لقد قلنا لهم ببساطة: ‘هذا الخيار يؤدي إلى تلك النتيجة السلبية، وذلك الآخر خيار آمن'”. معظم من اتخذوا قرارات خاطئة في البداية غيّروا سلوكهم فورًا بعد ما علموا خطأ اختيارهم. لكن بعضهم لم يغير سلوكه واستمر مصرًا على خياراته الخاطئه.
نفس التجربة، لكن أجريت على مشاركين مختلفين.
استندت هذه الدراسة الأخيرة إلى بحث سابق أُجري باستخدام اللعبة على طلاب قسم علم النفس في أستراليا. إلا أن الدراسة الأخيرة تميزت ببعض الاختلافات الرئيسة. فبدلاً من إشراك طلاب محليين في التجربة، المشاركون هذه المرة كانوا من مجموعة دولية أكثر تنوعًا: 267 شخصًا من 24 دولة مختلفة، ينتمون إلى خلفيات ديموغرافية متنوعة ونطاق عمر (سن) أوسع بكثير من المشاركين في الدراسة السابقة، بما فيهم مشاركون فوق سن الخمسين سنة.
ومن العناصر الجديدة الأخرى التي أُضيفت إلى الدراسة، متابعة المشاركين لمدة ستة أشهر، حيث دُعي المشاركون للعب اللعبة نفسها. وهذه المرة، سأل الباحثون المشاركين، في نهاية اللعبة، عما يفعلون وما هو الأسلوب الأمثل في رأيهم.
نتائج الدراسة
بتوسيع نطاق الاختبار ليشمل طلاب علم نفس غير أستراليين، تمكن الباحثون من اختبار مدى اتساق ما لاحظوه من نتائج الدراسة السابقة بالمقارنة مع نتائج الدراسة الحالية، التي أخذت في الاعتبار الاختلافات الثقافية والفروق في السن وفي الديموغرافيا. وتبين أن النتيجة هي نفس النتيجة كما هي في الدراسة السابقة.
قال الدكتور جان ريتشارد دي بريسيل: “أجرينا نفس المهمة على عينة مؤلفة من مجموعة عامة من 24 دولة – أشخاص من أعمار وخلفيات وتجارب حياتية مختلفة. وما وجدناه هو ظهور نفس السمات السلوكية. كل ما لاحظناه لدى طلاب علم النفس الأستراليين قد تكرر بشكل شبه دقيق في العينة الجديدة.”
قد يكون هذا مرتبطًا بالمرونة الإدراكية – أي القدرة على تكييف التفكير حسب الحاجة [المرونة الإدراكية هي القدرة الذهنية على التحول بين مفهومين مختلفين، والتفكير في مفاهيم متعددة في آن واحد، أي الانتقال من مهمة إلى أخرى أو من سلوك إلى آخر وفقًا للمتطلبات (3)]. وهذه المرونة الإدراكية تنحو إلى التراجع والتدهور مع التقدم في السن.
ومن المثير للاهتمام، أنه عندما دُعي المشاركون في الدراسة الأخيرة للعب اللعبة نفسها بعد ستة أشهر، أظهر معظمهم نفس النمط السلوكي الذي لوحظ في الدراسة السابقة.
قال فيليب جان ريتشارد ديت بريسيل: “كانت هذه إحدى النتائج الأكثر لفتًا للانتباه. فهي تشير إلى أن هذه النتيجة لم تكن بسبب أخطاء عشوائية أو أيام عصيبة مرت على المشاركين. بل كانت نتيجة سمات مستقرة – تقريبًا مثل السمات الشخصية الخمس (4). هذا لا يعني أنها ثابتة، لكن قد تتطلب تدخلًا لتغييرها.”
كما تمكّن الباحثون من تأكيد أن الخيارات التي اتخذها المندفعون لا يمكن تفسيرها ببساطة على أنها عادة اعتادوا عليها، كما لو كانوا يقومون بذلك بشكل تلقائي وبدون تفكير فيما كان يحدث بالفعل. وبسؤال المشاركين عن سبب اختياراتهم، اتضح أنهم يدركون تمامًا الباعث وراء اختيارهم.
“سألنا المشاركين عن الاستراتيجية الأفضل برأيهم، وكانوا كثيرًا ما يصفون تفاصيل ما كانوا يفعلونه بدقة – حتى لما كان ما فعلوه خطأًً بشكل واضح، ” كما قال الدكتور جان ريتشارد ديت بريسيل.
وأضاف أن هذا يشي بمشكلة أعمق: وهي الفشل في عدم دمج المعرفة الجديدة في استراتيجية تحد من المخرجات السلبية – فحتى عندما يعرف الناس المخاطر المترتبة على تصرفاتهم [مثلًا، من يعرف أن التدخين يسبب السرطان لكنه يصر على مواصلة التدخين رغم ذلك]، فإنهم لا يعدلون من تصرفاتهم دائمًا بناءً على تلك المعلومات أو المعرفة الجديدة، بل يستمرون في هذا التصرف.
التداعيات الواقعية
مع حرص الباحثين على عدم المبالغة في مخرجات النتائج وتحميلها ما لم تحتمل في الواقع، فإن نتائج التجربة قد تُرشدنا إلى طريقة تصميم علاجات للسلوكيات الضارة بالذات (5)، مثل إدمان القمار والمخدرات وشرب الكحول.
“بالطبع، الحياة الواقعية أكثر تعقيدًا بكثير من اللعبة البسيطة التي صممناها لإجراء التجربة. لكن الأنماط السلوكية التي لاحظناها، حين تجاهل بعض الناس كلاً من تجاربهم والمعلومات التي زودوا بها، تُشبه ما نلاحظه في إدمان القمار والسلوكيات الاندفاعية الأخرى الضارة بالذات،” كما قال الدكتور جان ريتشارد ديت بريسيل.
وللبحث أيضًا مضامين مهمة على رسائل الصحة العامة [توصيل المعلومات الصحية للتأثير في سلوكيات الأفراد والمجتمعات وتغييرها، وذلك من أجل تحسين الصحة العامة]. تعتمد العديد من الحملات التثقيفية على تقديم معلومات – فيما يخص مضار التدخين أو شراب الكحوليات أو الأطعمة السريعة أو المخاطرة المالية – بافتراض أن الناس سيتصرفون بناءً عليها. لكن هذه الدراسة تفيد بأن المعلومات وحدها لا تكفي بالنسبة للبعض.
قال الدكتور جان ريتشارد ديت بريسيل: “لقد وضحنا أن الحملات التثقيفية المبنية على المعلومات تُجدي نفعًا مع معظم الناس – ولكن ليس مع الجميع. بالنسبة للأفراد ذوي السلوكيات الانذفاعية، قد نحتاج إلى نوع مختلف من التدخل.”
ـــــــــــــــــــــــــ
مصادر من داخل وخارج النص
1- https://www.nature.com/articles/s44271-025-00284-9
2- https://ar.wikipedia.org/wiki/نظرية_حساسية_التعزيز
3- https://ar.wikipedia.org/wiki/مرونة_إدراكية
4- https://ar.wikipedia.org/wiki/عناصر_الشخصية_الخمسة
5- https://en.wikipedia.org/wiki/Self-destructive_behavior
المصدر الرئيس
https://www.unsw.edu.au/newsroom/news/2025/07/science-self-sabotaging-destructive-behaviour-addiction-punishment-learning