عقار بلا حدود قراءة في فتح باب التملّك لغير السعوديين في المملكة

د. سعيد تيسير الخنيزي*
قبل سنوات قليلة فقط، ولنقل قبل عام 2015، وفي ظل القوانين آنذاك، كان من الصعب أن يتخيّل أحد أن يأتي اليوم الذي يتمكّن فيه غير السعوديين من تملّك العقارات بحرية داخل المملكة.
لكن اليوم، وفي خطوة تاريخية تتماشى مع رؤية السعودية 2030، أُقرّ نظام جديد يفتح الباب أمام الأجانب لتملّك العقارات بأنواعها المختلفة في المملكة — السكنية، والتجارية، والصناعية منها.
فما الذي تغيّر بالضبط؟ وما هي الخطوط الحمراء التي لا تزال قائمة؟ وهل نحن أمام نقلة نوعية في سوق العقار أم أمام تجربة سيتم تقييم آثارها لاحقًا؟
النظام الجديد — نظام تملك واستثمار غير السعوديين للعقارات — الذي نُشر في الجريدة الرسمية في يوليو الجاري 2025، سيبدأ تطبيقه مطلع عام 2026، ويُعدّ نقطة تحوّل جذرية مقارنة بالنظام القديم الصادر قبل أكثر من عقدين. ومن أبرز ما جاء فيه أن:
* الأفراد غير السعوديين المقيمون نظامًا في المملكة يمكنهم تملّك وحدة سكنية واحدة، بشرط أن تكون للاستعمال الشخصي وليس للاستثمار أو التأجير.
* الشركات الأجنبية المسجلة أو المرخصة في المملكة تستطيع تملّك العقارات التي تحتاجها لأعمالها التجارية أو الصناعية، بل وحتى داخل مكة المكرمة والمدينة المنورة إذا كانت لغاية تشغيلية، كفندق أو مستشفى، مثلاً.
* الشركات والصناديق الاستثمارية الأجنبية يمكنها الاستثمار العقاري الحر، بشرط أن لا تقل قيمة المشروع عن 30 مليون ريال، وأن يُنجز خلال 5 سنوات.
* مكة والمدينة لا تزالان خطًا أحمر أمام تملك الأفراد غير السعوديين، إلا في حالات استثنائية كالميراث أو الوقف الخيري أو كما ذُكر سابقاً.
الرأي الشخصي
من منظور شخصي، ومن خلال العمل كمستشار قانوني مع شركات وأفراد من مختلف الجنسيات، لطالما كانت مسألة تملّك الأجانب للعقار من التساؤلات المتكررة في الاجتماعات؛ كان من المعتاد أن نشرح بين الحين والآخر للعميل — والذي قد يستثمر عشرات ومئات الملايين في مشاريع داخل المملكة — أنه لا يمكنه قانونًا تملّك شقة أو فيلا، حتى ولو عاش هنا سنوات طويلة مع أسرته. ولم يكن التحدي في القانون فقط، بل في الإقناع؛ فكنا نرى على وجوههم مزيجًا من الدهشة والخذلان، وكأن القانون يقول لهم: “أنتم مرحب بكم كـ مستثمرين، لا كمقيمين.”
نذكر هنا موقفًا مع أحد كبار التنفيذيين في شركة أجنبية، عاش أكثر من 12 عامًا في السعودية، وكان يسهم في مشاريع صناعية في عدة مدن، إذ قال لنا ذات مرة:
“أشعر أنني أنتمي لهذا البلد أكثر مما أنتمي لبلدي الأصلي، ولكن عندما أحاول شراء منزل هنا، أُجبر على التراجع، وكأنني أعيش في فندق، لا في وطن.”
اليوم، ومع صدور النظام الجديد، نرى ذلك الحاجز النفسي يُزال شيئاً فشيئاً. ليس فقط لأن القانون أصبح أكثر مرونة، بل لأنه يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمقيم — من علاقة “استضافة” إلى علاقة “شراكة”. وهذه ليست مجرد لغة رمزية؛ بل لها آثار ملموسة في سلوك الأفراد، وعلى رؤيتهم لمستقبلهم داخل المملكة كذلك.
فالمقيم الذي كان ينظر إلى وجوده في السعودية كمرحلة مؤقتة، بدأ اليوم يرى فيها وطنًا يمكن أن يبني فيه حياة طويلة الأمد. والقدرة على تملّك مسكن، ولو بشروط، تزرع شعورًا بالاستقرار والانتماء، وتشجع على التفاعل الإيجابي مع المجتمع، وعلى استثمار أعمق في الحياة اليومية، سواء في التعليم أو الصحة أو حتى المشاركة العفوية في المبادرات المجتمعية.
كما أن الرسالة الضمنية التي يحملها هذا النظام هي أن الهوية الاقتصادية والاجتماعية للمملكة في طور التوسع — ترحب بالكفاءات والاستثمارات، وتمنحهم موطئ قدم قانوني يُشعرهم بأنهم ليسوا فقط “مقيمين نظاميين”، بل شركاء في التنمية.
ولقد تعاملنا أيضاً مع عملاء أجانب يملكون حرية التملك في دول أخرى — بما في ذلك دبي وتركيا واليونان وحتى بعض الدول الأوروبية — وكانوا يتساءلون كذلك: لماذا السعودية، صاحبة أكبر سوق عقاري في الخليج، لا تسمح بذلك؟ فاليوم، نستطيع أن نقول لهم بأن:
“السعودية دخلت رسميًا نادي الدول المنفتحة على الاستثمار العقاري الأجنبي — لكن بطريقتها الخاصة، وبشروطها المدروسة.”
والأمر لا يقتصر على الأفراد بكل تأكيد، بل حتى الشركات الأجنبية نفسها، بما فيها الشركات الكبرى، فهي أيضاً كانت تواجه تحديات صامتة بسبب القيود العقارية السابقة.
ونذكر هنا أيضاً شركة أجنبية صناعية كبرى عملنا معها منذ عدة أشهر، وكانت تسعى لإنشاء مصنع في إحدى المدن الصناعية بالمملكة. الأمور كانت تسير بسلاسة من حيث الترخيص والتسهيلات، لكن العقبة المفاجئة كانت في تملك الأرض والمرافق.
رغم أنها شركة مرخصة من هيئة الاستثمار وتعمل في مشروع إستراتيجي، لم يُسمح لها بامتلاك الأرض باسمها، واضطرت إلى إبرام ترتيبات معقدة — منها تسجيل الأرض باسم شريك محلي والدخول في عقود انتفاع طويلة الأجل، وهو ما أثار الكثير من المخاوف القانونية لها حول السيطرة، والاستدامة، ونقل الملكية.
فـ في اجتماعاتنا معهم، كان مسؤولو الشركة يتسائلون:
“كيف يمكننا أن نستثمر مئات الملايين في بلد لا يمكننا فيه حتى أن نمتلك المقر أو المصنع الذي بنيناه بأموالنا؟”
هذا النوع من الغموض كان يشكّل عامل تثبيط حقيقي، ويدفع بعض الشركات لتقليل التوسع أو الاكتفاء بالشراكات بدل الملكية المباشرة.
اليوم، مع النظام الجديد، بات بالإمكان تملك العقارات التشغيلية — بل وحتى في مكة والمدينة — إذا كانت لازمة لنشاط مرخص. هذا سيفتح الباب أمام موجة جديدة من التوسع والاستقرار المؤسسي في المملكة، ويمنح المستثمر الأجنبي ثقة أكبر في بيئة الأعمال.
ولكن بين الحق والواقع، ورغم الحماس كممارس قانوني لهذا التوجه التشريعي، لا يمكنني أيضاً تجاهل سؤال جوهري هنا وهو: هل هذا الانفتاح سيزيد من صعوبة تملّك المواطن السعودي للعقار؟
فلنكن واقعيين… سوق العقار في السعودية أصلاً يعاني من تضخم شديد، وأسعار الوحدات السكنية في كثير من المدن أصبحت خارج نطاق القدرة الشرائية لشريحة واسعة من المواطنين.
تخيّل الآن أن تدخل هذه السوق “قوى شرائية أجنبية” — أفراد وشركات وصناديق لديها سيولة كبيرة وخبرة في الاستثمار العقاري، تدخل إلى مناطق مختارة بعناية… هل هذا سيدفع بالسوق نحو التوازن؟ أم يدفع بالأسعار نحو مزيد من الارتفاع؟
شخصيًا، أنا لا أؤمن بنظرية الانغلاق كحل، لكن في المقابل، لا يمكننا الانفتاح الكامل دون أن نسأل:
* من يحمي الطبقة الوسطى من التآكل؟
* من يضمن أن لا تصبح الأحياء الجديدة حكراً على الأجانب وأصحاب الدخول المرتفعة فقط؟
* ماذا عن الشاب السعودي الذي يعمل ويجتهد، لكنه يواجه كل عام قفزة غير مبررة في أسعار الشقق؟
القلق هنا مشروع، ولا يقلل من جدوى النظام الجديد، بل يجب أن يُحاط بإجراءات مصاحبة، مثل:
* تحديد نسب قصوى لتملك الأجانب في مناطق معينة.
* فرض رسوم إضافية على العقارات غير المستخدمة أو المحتكرة.
* استمرارية الدعم المباشر للمواطن في تملك أول سكن، ليبقى التوازن الاجتماعي محفوظًا.
وهنا أعود إلى النقطة الجوهرية:
نريد بيئة استثمارية مفتوحة، لكن نريد معها عدالة تحفظ الحق الأساسي في السكن.
التشريعات الذكية ليست منغلقة ولا فوضوية، بل تقوم على مبدأ:
‘لك أن تفتح السوق، ولكن بشرط أن تُبقي باب البيت مفتوحًا لأبنائه أولًا.’
لأن السكن ليس مجرد أصل استثماري، بل هو حق إنساني وجذر للاستقرار الأسري والمجتمعي، فإن أي إصلاح في هذا القطاع يجب أن يُوازن بعناية بين جذب رأس المال وتحقيق الإتزان ضمن الدائرة ذاتها. لا بأس أن نطمح إلى سوق عقاري تنافسي ومفتوح، لكن دون أن نترك المواطن يشعر أنه مجرد متفرج على مدينته، بل يجب أن يبقى في قلب المعادلة، لا على هامشها.
ففي نهاية المطاف، قيمة أي سياسة لا تُقاس فقط بقدرتها على جذب المستثمر، بل بقدرتها على تحسين جودة حياة المواطن. وإذا نجحنا في خلق منظومة تُتيح التملك للأجنبي دون أن تُقصي المواطن، حينها فقط يمكننا القول إننا قد نجحنا ليس في تحرير السوق فحسب، بل في ترسيخ مفهوم الانتماء للجميع — سعوديين ومقيمين على حدٍ سواء.
وتحرير السوق لا يعني تحريره من المسؤولية. بل العكس تمامًا، كلما اتسعت رقعة التملك، كلما تعاظمت حاجة الدولة إلى أدوات رقابية ذكية ومؤشرات اجتماعية دقيقة تتابع تأثير السياسات العقارية على توزيع الفرص والسكن. فالعقار ليس سلعة كبقية السلع؛ هو يمسّ الاستقرار، ويشكّل الفارق بين شعور الإنسان بأنه مستقر وآمن، أو عالق في دوامة الإيجارات والانتظار.
من هنا، يصبح التحدي الحقيقي في ترسيخ مبدأ “الحق في السكن” كأولوية موازية لمبدأ “جاذبية الاستثمار”. لأن وطنًا ناجحًا ليس فقط ذلك الذي يجذب رؤوس الأموال، بل ذلك الذي يُشعر أبناءه — قبل غيرهم — بأنهم يملكون مساحة آمنة، مستدامة، يمكن أن يبنوا فيها مستقبلهم بثقة. فكل منزل يُبنى لمواطن يشعر بالثقة، وكل نظام يحفظ له هذا الشعور، هو استثمار في رأس المال الاجتماعي قبل أن يكون في العقار ذاته.
ما الهدف من هذه الخطوة؟
الهدف مزدوج:
1. جذب رؤوس الأموال الأجنبية وتنشيط قطاع العقار والتشييد، عبر ضخ استثمارات حقيقية مدروسة، وليس مجرد شراء للأراضي.
2. خلق بيئة أكثر استقرارًا واندماجًا للمقيمين الأجانب، وخاصة المهنيين الذين يقيمون لسنوات طويلة، دون أن يتمكنوا من تملّك منازلهم.
ومع ذلك، لم تغب عن المشرّع السعودي المخاوف من تضخم الأسعار أو التأثير على قدرة المواطن على التملك، ولذلك ربط التملك بشروط واضحة، وحدد مناطق معينة سيسمح فيها بالتملك، على أن تُعلن لاحقًا.
وهنا تتجلّى حِرفية المشرّع في رسم معادلة دقيقة: فتح الباب دون أن يُفتح على مصراعيه، وضبط السوق دون أن يُخنق. فالقانون الجديد لا يكتفي بجذب الاستثمار لأجل الاستثمار، بل يشترط أن يكون هذا الاستثمار تنموياً وموجهاً نحو خلق قيمة مضافة حقيقية — سواء عبر بناء مساكن جديدة أو تطوير مجتمعات عمرانية حديثة.
وفي المقابل، لم تُغفل المنظومة التشريعية الحق الأصيل للمواطن في السكن، فجاء التمكين المشروط للأجانب كوسيلة لتعزيز التوازن لا لخلخلته. إن حصر التملك في “مناطق محددة” لم يُعلن عنها بعد، هو في ذاته إشارة ذكية إلى أن السياسة العقارية الجديدة ستُدار بحذر، بناءً على قراءة دائمة لاحتياجات السوق، لا بمنطق الإتاحة المطلقة.
ومن المهم أن نُدرك أن هذا التوجه لا يهدف إلى التفضيل بين فئات المجتمع بقدر ما يسعى إلى إعادة توزيع فرص التملّك ضمن رؤية متوازنة. فالمقيم الذي اختار المملكة موطنًا طويل الأمد، ويُسهم في اقتصادها يوميًا، لا ينبغي أن يبقى محصورًا في دائرة “المستأجر الأبدي”، تمامًا كما لا يجوز أن يشعر المواطن بأن التمكين العقاري يُنتزع منه تدريجيًا لصالح قوى شرائية خارجية. التحدي إذًا ليس في السماح أو المنع، بل في كيفية إدارة هذا التداخل بين الحقوق والمصالح بما يخدم النسيج الاجتماعي ويحفظ استدامة النمو.
ولذلك، فإن فعالية هذا النظام الجديد لن تُقاس فقط بقدرته على جلب الاستثمارات، بل بقدرته على خلق أثر عمراني واجتماعي متكامل.
المناطق التي ستُفتح للتملّك يجب أن تتحول إلى بيئات حية، نابضة بالتنوع، تتعايش فيها رؤوس الأموال مع تطلعات المواطنين، وتُنتج أنماط سكن حضرية جديدة، لا مجرد مجمعات مغلقة أو استثمارات خاملة. وفي هذه النقطة بالتحديد، يظهر دور البلديات، والمطورين، والقطاع المالي، في تحويل التمكين القانوني إلى واقع مدني مُنظم، لا عشوائية عقارية تخنق السوق بدل أن تُنشّطه.
كلمة أخيرة
فتح باب التملك أمام الأجانب ليس مجرد قرار عقاري، بل هو قرار اقتصادي واجتماعي واستثماري بامتياز. وهو يعكس ثقة الدولة في قدرتها على تنظيم السوق، وموازنة المصالح، وجذب الاستثمار دون التفريط في الثوابت.
ومع اقتراب دخول النظام حيز النفاذ، تبقى مسؤولية التوعية القانونية والرقابة المؤسسية ضرورية لضمان نجاح هذا التحول، وحماية حقوق الجميع — مواطنين ومقيمين ومستثمرين.
ولأن هذه الخطوة تتجاوز نطاق العقار نحو إعادة صياغة العلاقة بين السوق والدولة والمجتمع، فإن نجاحها لن يُقاس فقط بنصوص النظام، بل بفعالية التنفيذ وشفافية التطبيق. نحن أمام تحول يحمل وعودًا، لكنه أيضًا يحمّل الجميع — من الجهات الحكومية إلى المستثمرين، ومن الإعلام إلى القانونيين — مسؤولية مضاعفة في التوعية والرقابة والتفاعل.
فمن دون قراءة واعية من الأفراد، وتطبيق دقيق من الجهات، ومتابعة مستمرة للأثر الاجتماعي والاقتصادي، قد تتلاشى النوايا الحسنة أمام واقع السوق. لذلك، فإن هذا التحول يجب أن يُدار لا كفرصة فقط، بل كعقد اجتماعي جديد بين الدولة وكل من يقطن أرضها — يضمن الحقوق، ويضبط الطموحات، ويؤسس لتعايش مستدام بين الاستثمار والاستقرار.
ـــــــ
* محامٍ وباحث قانوني، حاصل على درجة الدكتوراه في القانون من جامعة سيركيوز في نيويورك، وعضو مجلس نقابة المحامين في العاصمة واشنطن. يعمل حالياً في مكتب محاماة إقليمي يخدم الشركات الأجنبية والإقليمية.