الشعر لا يشرح… بل يُوقظ

نازك الخنيزي

الآن يبدو أنه لم يعد للفلاسفة والعلماء ما يقولونه، ولكنّ الشعراء، نعم.

بهذا التصريح الصادم والمضيء، يفتح أدونيس نافذة على أزمة التعبير في زمن فائض بالمعرفة ومجوف من المعنى.

يرى الشاعر السوري أن الشعر، رغم كونه لا يملك أدوات العلم، ولا قدرة الرواية على السرد الممتد، يظلّ الأقدر على تغيير زاوية الرؤية، وإعادة تشكيل علاقة الإنسان بالعالم، فالشعر ـ كما يضيف ـ قد لا يُغيّر العالم، لكنه يُغيّر الإنسان الذي يرى هذا العالم.

ويذهب إلى أبعد من ذلك حين يشير إلى تراجع أثر الرواية، رغم انتشارها، لصالح الشعر الذي يستعيد ـ بصمت وعمق ـ دوره كـ “لغةٍ أخيرةٍ”، تنقذ الذات من التسطّح، وتعيد للكينونة ظلّها في عالمٍ يتسارع نحو التلاشي.

من هنا، لا يكون الشعر فنًّا معزولًا، بل مقاومة داخلية، وبصيرة حين يعجز النظر.

في زمن الانفجار المعرفي والتسارع التكنولوجي، حيثُ تتعثر الفلسفة أمام تعقيدات الوعي، ويكتفي العلم بجمع البيانات دون أن يفسِّر أثرها على الروح، ينهض الشعر لا بوصفه ترفًا لغويًا، بل بوصلةً أخيرة نحو المعنى.

إنه اللغةُ الوحيدة التي تُمسك ما لا يُمسَك، وتقول ما يتجاوز العبارة، وتلمس ما لا يُرى.

كأن أدونيس حين قال إن “الشعر هو المقاومة الأخيرة”، لم يكن يعبّر عن حنينٍ جماليّ، بل عن صراع وجوديّ: الشعر بصفائه، وغيابه عن منطق السوق، صار ملاذًا لمن لا يزال يؤمن أن الإنسان أكثر من آلة ذكية، وأن اللغة أكثر من أداة تواصل.

لم تعد الفلسفة قادرة على اللحاق بأسئلة هذا العصر، ولم يعُد العلم معنِيًّا بتأويل الغربة الإنسانية. كلاهما يتقدمان في المسافة، لكنّ الشعر وحده يغامر في العمق.
فهو، كما يراه أدونيس، رؤيا لا تقرير، شفرة لا تُحلّ، حدسٌ يسبق العبارة.

إنه لا يشرح العالم، بل يعيد تشكيل نظرتنا إليه.

كيف تُمسك الضوء دون أن يحرقك؟ كيف تحبّ في زمن الخوارزميات؟

أسئلة كهذه، لا تُطرَح في المختبر، ولا تُجاب عنها في قاعة فلسفة، بل تُهمَس في قصيدة، وتُفهم بالقلب لا بالتحليل.

كما قال درويش:

“على هذه الأرض ما يستحق الحياة” —

جملةٌ لا تشرح الواقع، بل تُعيد تشكيله في القلب.

قد لا يهدم الشعر نظامًا سياسيًا، لكنه يهزّ نظام الوعي.

حين يكتب محمود درويش: “أنا قد أكون أنا إذا خرجتُ منّي”، فهو لا يصف حالة ذاتية، بل يعيد طرح سؤال الهوية في عصر يُقاس فيه الإنسان بمدى حضوره الرقمي لا بروحه.

الشعر بهذا المعنى تمرّد ناعم، لا يُشهر سيفًا، بل يُوقظ ضميرًا.

هو سؤالٌ مفتوح في زمن تُباع فيه الأجوبة مسبقة الصنع، ومقاومة للبساطة السردية التي تُختزل فيها التجربة إلى استهلاك.

الرواية، رغم عمقها، صارت تُجاهد لتُقاوم زمن الاختزال، إنها بحاجة إلى قارئٍ صبور، بينما الشعر يُوجز العالم في ومضة.

كما في ومضة أدونيس:

“كلُّ الطرق تؤدي إليك… وكلُّ الطرق تهرب منك.”

بيتٌ يختزل ما تعجز عن شرحه رواية كاملة.

في زمن الانتباه المقطّع، والتلقي الفوري، تحوّل الشعر، خصوصًا شعر الومضة، إلى تغريدةٍ فلسفية تخترق الوعي دون استئذان، وتعلّق في الروح كندبة لا تُنسى.

نحن في عصر يُحوَّل فيه الإنسان إلى رقم، وذكرياته إلى بيانات، لكن الشعر يُذكِّرنا بأننا أكثر من ذلك.

حين يقول شاعر: “أنا لا أتنصّت لهاتفي، بل لظلّي”، فهو يُقاوم فكرة “الذات الرقمية”، ويستعيد الداخل المنسي.

الشعر هنا ليس تعبيرًا عن الذات، بل صيغة بقاء، ضد التبسيط، ضد التكرار، ضد الذوبان في الجموع، إنه ما يجعل الإنسان مرئيًا من الداخل، وما يمنح حياته ظلًّا أطول من جسده.

قد لا نقرأ الشعر كما كنا، لكننا ـ في الحقيقة ـ نحتاجه أكثر من أي وقت مضى، لأننا نعيش عالمًا يقول كل شيء… ويعجز عن قول الحقيقة.

الشعر لا يزخرف الواقع، بل يوقظه، لا يعيدنا إلى الماضي، بل يعيدنا إلى أنفسنا، فكل من أحب، أو قاوم، أو بحث عن المعنى، كان ـ دون أن يدري ـ ينشد قصيدة لم تُكتب بعد.

“الشعر هو الحفر في الظلام، بحثًا عن يدٍ لم تُمدَّ إليك بعد.”

— مُستلهمة من أدونيس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×