راياتٌ وبيارق طُويّت

حسن دعبل
لم يُغطّوا بيتنا بسواد، أو يلفّوه بأستارٍ وصرخات.
الدّخان وحده، وهو يتصاعد مع غبشة الفجر، برائحته وطهارته؛ قبل النحيب وخيط بكاءاته، وخيوطٍ من نشيجٍ حبيس. نشيج بعامه الفائت، ومذ غاب وطويت الرّايات والسواد والبيارق.
الرّايات برائحتها، وما فاض بها من دموع؛ وهنّ يلفّنها، ويتمسّحن، ويمسحن وجوههن بعَبراتٍ تخرّ صادقة بحسرة أيامهن، وهي تنقضي وتتناقص من صعب المُراد والوصول.
الرّايات التي أتذكرها، لم تكن لامعة بسواد، ولم تكن مُستطيلة في الطول والعرض.
مُثلثة الأضلاع بسوادها العتيق، غير مطويّة بهضيمة. الرّايات والبيارق تُشبه النّشر التي تُعلّق وتُنشر على “بِنديرات” محاملهم.
البيارق، خضراء، حمراء، وسوداء بنقش الكتابة “المُخيّطة” برقعةٍ مائلة:
يا حسين، يا شهيد، يا عطشان، يا غريب.
أترقب هذا السواد، بسنوات طفولتي التي عَبرت برزخها، وأعرف أنني أسابق الحبو والرّكض، وكلما كبرتْ بي الأعوام، وقاسوا ثوبي بذراع، وأطالوه بـ “شَلّةٍ” وخيط إبرة؛ تذكّروا يوم ولادتي ومولدي، وصرختي التي ضاعت بين صرخاتهن، وهن يمسحن العرق والبخار من على وجوههن، ويمسحن به جسدي الغرّ.
مدّدنني قرب النار، وقرّبن “قلم القدو”، ونحرن به رقبتي بصرختهن العالية: يا حسين.
مباركين به اسمي وثوبي من تعويذة الشرّ والشرور.
وجوهٌ كثيرة تسبح في سماوات ذاكرتي وأمهات كُثر، وبكاءات صامتة؛ وقدور يصبغها السواد والدخان، والبركات. ومن بين تلك الوجوه، أتذكر نساء غريبات في اللّباس، والبرقع الذي يُغطي نصف وجوههن. يجلسن، ويصمتن، ويتبادلن دورهن في دورة الدّخان.
يُديرن بأيديهن بقايا “العيش” في تلك القدور الكبيرة. أتذكرهن بحبوٍ بعيد وأحضان؛ الزّور بالقرب والبحر. يشاركنهن بنفس الأجر والثواب، وطهارة الأكل، والمكتوب من الرزق والمال.
غابت بهنّ الأيام، وغيّبتهنّ الصرخات الماكرة. وكلما كبرتُ وضاق بي السؤال، يباغتنني بإجاباتٍ حسيرة وغائبة. يحدثنني عن قِدر معلوم في اليوم السابع، و “صفرية” أهل دارين، أو رَبع أبي. وهي عادة أيضاً غابت عن قدور بيتنا وعاشورائه. حتى وهم يقصّونها في كل عاشوراء، يزيدون في الكيل ولا ينقصونه، وبأن هذه “الصفرية” يُمنع حتى فتحها أو الأخذ من عيشها. لأن أباك سيحملها إلى ربْعه في دارين. ليأخذ منهم المقسوم الذي يشاركون في مأتمه السنوي، بكل طيبةٍ وطهارةٍ وإيمان، ووجود.
الشيخ الذي أراقب بياض يده، وهو يلوّح بها في الحديث، أراقبه بفضول وتعجب. والطفل الذي يصغرني ولم يكبر، لم تُشيّعه نظرات هذا الآتي من العراق الذي يرقد فيه الحسين.
بركاتٌ كثيرة تُحيط بهذا الشيخ في داخلي، حتى العمامة الذي يلبسها، لا تُشبه العمائم التي أراها؛ وأنا أتذكرها بين السواد، والبياض؛ حين أدركت لاحقاً فروقاتها ومنزلتها، وفي عمرٍ من مراهقتي. وأنا أتجاذب معه الحديث، يطول ويقصر حسب ما ينطقها “بتعلولته”، وحكايته عن بلده الذي يتلبسني ويسكن بين الخاصرة والضلوع.
غاب الشيخ بعمامته الكربلائية من بيتنا. فغابت الوجوه، وتبدلت الصرخات والعِبارات، قبل العَبرات والرّايات.