عاشوراء التي قتلها التكرار

منتظر الشيخ

في كل عام، نعود إلى عاشوراء كما لو أننا لم نغادرها، نُحيي ذكراها، نرتّل مراثيها، نُعيد سرد حكايتها ذاتها، ونبكي على الحسين كما فعلنا ألف مرة من قبل. لكن شيئًا ما في هذا التكرار بات يبعث على القلق: هل لا زلنا نُحيي الحسين، أم أننا نُعيد دفنه بطريقة غير مباشرة؟

هذه المقالة ليست اعتراضًا على الشعيرة، بل دعوة للعودة إلى جوهرها؛ محاولة لفهم العلاقة بين التكرار والمعنى، بين الشعائر والوعي، بين الحسين الذي استُشهد في كربلاء، والحسين الذي قد يُغيب عن أذهاننا في زحام العادة.

ها هي أسطورة سيزيف تعود من أعماق الميثولوجيا، لا لتحكي قصة رجلٍ يدفع صخرةً وحسب، بل لتضع أمامنا مرآةً لحياتنا، نحن الذين نكرر أفعالنا يومًا بعد يوم في شعائر ثابتة، بلا انقطاع، بلا غاية واضحة. سيزيف، الذي ظنّ أنه تحايل على الموت، وجد نفسه في دوامة أكثر مشقة: يدفع صخرةً تنحدر كلما اقترب من القمة، ليعيد الكرّة مرارًا.

وحين نظر ألبير كامو إلى هذا المشهد، رأى فيه صورةً مصغّرةً عن الإنسان الحديث، ذاك الذي يعيش في تكرارٍ يوميّ قد يفقده المعنى. وهو المشهد ذاته الذي يمكن أن نلمحه في حياتنا الدينية إذا ما نُزعت منها الروح، واختُزلت في الإيقاع دون الإدراك. نصلي، نصوم، نقرأ القرآن، نحيي الشعائر، نردد الأدعية، نعيد سرد القصص… لكن كم منّا يفعل ذلك بوعيٍ حيّ؟ وكم منّا ينجرف مع التكرار دون توقفٍ للتأمل؟

وليس ذلك عيبًا في الدين ذاته، بل في ما صنعناه نحن أحيانًا من جمودٍ في الممارسة، حين عُلّقت القيم بالشكل، وحُصر الحسين في مجلس عزاء لا يتجاوز لحظة الحزن، في دمعةٍ لا تُسائل، وفي منبرٍ لا يتفاعل مع الواقع. جُعلت عاشوراء ذكرى تُستعاد، لا فرصة للفهم والتغيير. فأصبحت الشعائر تمضي كما هي، بينما تظل الحياة كما هي.

نردد “يا ليتنا كنا معكم”، وفي الوقت نفسه قد نغفل عن قيم الإنصاف والعدالة في يومياتنا. نعيش في زمنٍ يفرض تحدياته، لكننا نُحاكم الحاضر بعين الماضي، ونقدّم الحسين أحيانًا كملاذ شخصي، لا كرمزٍ لموقف أخلاقي مسؤول. ومع ذلك، كما وجد كامو في صراع سيزيف بصيصًا من المعنى، يمكننا نحن أيضًا أن نعيد النظر في ممارساتنا الشعائرية.

يمكن للشعيرة، إذا أُديت بوعي، أن تكون استجابة حية لا تكرارًا فارغًا. الصلاة، حين تكون حضورًا قلبيًا، تصبح اتصالًا صادقًا مع الله. والقرآن، حين يُقرأ بتدبر، يتحول إلى رسالة حياة لا مجرد لقلقة لسان. وعاشوراء، حين تُستحضر بروح متفتحة، تصبح حافزًا للتأمل والعمل، لا مجرد مناسبة للحزن والبكاء.

وقد عبّر الدكتور علي الوردي عن هذه المفارقة ببراعة في كتابه “مهزلة العقل البشري”، حين روى قصة رجلٍ كان يُكثر البكاء في مجالس الحسين، مرددًا دائمًا: “ليتني كنت معه فأفوز فوزًا عظيمًا.” وحدث أن رأى في منامه مشهد كربلاء بكل ما فيه من دماء وخطر، فرأى الحسين محاطًا بالأعداء، يستغيث، ولا يغيثه أحد. وما إن دعاه الحسين وحمّله درعًا وسيفًا، حتى فرّ هاربًا، ولم يكتفِ بالتراجع عن نصرته، بل أخذ معه الدرع والسيف أيضًا.

يقول الوردي في ختام القصة: “ونحن لا يجوز لنا أن نضحك على هذا المسكين، أو نعجب من عمله، فنحن كنا مثله. والنادر من بيننا من يستطيع أن يتبع المبدأ الذي ينادي به عندما يلتزم الموقف الذي يتطلب التضحية.”

هذه الحكاية الرمزية تكشف كيف يمكن للكلام أن يسبق الفعل، وللمشاعر أن تنفصل عن القرارات، وللحسين أن يُحيا في اللسان ويُخذل في الميدان. وهي دعوة صادقة لنعيد التفكير: كم من شعائرنا تعكس التزامًا صادقًا، وكم منها مجرّد تكرار لا يصمد أمام أول امتحان.

الحسين لم يُستشهد ليكون موضوعًا للبكاء فقط، بل ليوقظ فينا القيم العليا. لم يُردنا أن نكرر حزنه، بل أن نستخلص من حضوره طريقًا نستضيء به في حياتنا. كربلاء كانت لحظة وعي، لا مجرد لحظة فاجعة، كانت صراعًا واضحًا بين الحق والباطل؛ الباطل الذي وقف بجانبه الأغلبية وتركوا الحسين وحيدًا في المعركة، ليُقتل بأبشع صورة، رغم أن الذين قتلوه لعلهم كانوا يصلون ويقرؤون القرآن ويصومون رمضان، ويمارسون تلك العبادات سنوات طويلة، ولعلهم واصلوا على ذلك حتى بعد مقتله.

السؤال إذًا ليس: هل في العبادة تكرار؟ بل: كيف يعيد التكرار لها روحها؟ كيف نستعيد عاشوراء من أسر العادة؟ كيف نحول ما نكرره كل عام إلى وعيٍ يتجدد، كما فعل الحسين حين رفض الجمود؟ كيف ننتقل من دوامة سيزيف، إلى بصيرة الحسين؟

العبادة بلا وعي تفقد أثرها، والبكاء بلا فهم يظل فعلا ناقصًا. لكن حين نصلي بحضور، ونبكي بتأمل، ونُحيي عاشوراء كدعوة مستمرة للارتقاء، نكون حينها أقرب إلى الحسين… وأقرب إلى أنفسنا.

‫4 تعليقات

  1. لو كان في الصحيفة شوية احترام كان ممكن تراعي وقت نشر مثل هالمقالات بعد أيام العشرة لكن معروف ان توجه الصحيفة نحو كل ماهو شاذ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×