الديوانية… حيث لا تُدار الأرواح بالمركزية

عبدالله أبو رشيد

في مساءٍ هادئ، جلس إلى جواري شاب من الجيل الجديد. كان وجهه يحمل ملامح الوعي، وعيناه تفيض بأسئلةٍ أكبر من عمره.

قال لي:
“كيف تُدار الديوانيات؟”

أجبته، كما تملي عليّ البساطة:
“بالفطرة.”

فقال مبتسمًا، وقد بدا أن جوابي لم يُشفِ فضوله:
“الفطرة كلمة واسعة… فضفاضة، أريد ما هو أعمق.”

نظرت إليه طويلاً وسألته:
“ولماذا أنا؟ لماذا هذا السؤال؟”

قال بهدوء:
“لأنك عشت الديوانية أكثر من أربعين عامًا، ونحن كنا صغارًا نحضرها، نسمع ونضحك ونشارك. واليوم… أصبح لدينا ديوانية، لكنها تشبه القصر… بلا روح. باردة. صامتة حتى وإن ازدحمت.”

قلت له بابتسامة:
“أولًا، دعني أوضح شيئًا… لم أكن يومًا (صاحب) ديوانية. كنتُ وما زلت، واحدًا من أهلها. لا فضل لي، ولا مركز. نحن نتحلّق كأنداد، لا كمراتب.”

ثم سألته:
“هل تُديرون ديوانيتكم بالعقلية الإدارية؟ أم بالعقلية الاجتماعية؟”

صمت، ثم قال:
“ما الفرق؟”

قلت له بهدوء يشبه الحكمة التي تهطل بعد سنوات:
“الفرق بين من يرى الناس ملفات… ومن يراهم أرواحًا.
بين من يُنظّم الجلسة، ومن يُنعشها.
بين من يقود النقاش كمدير اجتماع، ومن يتركه ينمو كحديث بين إخوة.”

ثم أضفت:
“أنتم تُديرون الديوانية كما تُدار المؤسسات. هذا لا يصح.
الديوانية لا تُدار بالتعليم الإداري… بل بالفهم الإنساني.
بالحسّ، لا باللوائح.
بالمحبة، لا بالقرارات.
اقرأوا عن الذكاء الاجتماعي، عن فن الإصغاء، عن دفء الحضور. أنتم تُديرون العقول، وتنسون النفوس.”

ابتسم وقال:
“تحدث أكثر… لم أفهم كل شيء.”

قلت له:
“ليس الآن. نحن في مكان عام، وسأكتب قريبًا عن هذه التجربة. ولكن، احمل عني هذه العبارة قبل أن تذهب:
الديوانية لا تُدار بالمركزية الإدارية… بل تُقاد بالشورى، وتُحيا بالمحبة، وتُبنى على البساطة.”

الديوانية ليست طقم أثاث… بل نَفَس حياة

الديوانية ليست طاولة تُدار، ولا اجتماعًا يُضبط بالساعة.
هي مساحة تخلع فيها أعباءك، وتلبس نفسك.
هي المكان الذي لا تسأل فيه: “من الرئيس؟”
بل تسأل: “من غاب اليوم؟ كيف حاله؟”

هي الموضع الذي يجلس فيه الأستاذ بجانب المزارع،
ويتحدث المهندس مع من لا يقرأ ولا يكتب،
فلا يشعر أحد بالنقص، ولا يُحسّ أحد بالتفوّق.
فالديوانية في جوهرها، عادلة بلا قانون،
ودافئة بلا مدفأة.

في زمن العقول… من يعيد الروح؟

جيل اليوم يحمل الشهادات، ويمتلك اللغة، ويجيد الإدارة…
لكن ما ينقصه ليس التنظيم، بل الحميمية.
ليس الحضور، بل الحضور القلبي.

الديوانية لا تحتاج إلى جداول أعمال…
بل إلى وجوه تحب اللقاء، وقلوب تعرف الإنصات، وأرواح تقبل الآخر كما هو.

أخيرًا…

أكتب هذا لا لأدّعي الحكمة، بل لأُسلّم تجربتي لمن بعدي.
فإن كان لي أن أختصر كل تلك السنوات في عبارة،
فهي:
الديوانية لا تُبنى بالحجر… بل بالبشر.
ولا تُدار بالعقل… بل تُحيا بالروح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×