أمي.. والصباحات بعدها..!
إبراهيم الوافي* |
ذاتَ عمى كانتْ أمي تلامس وجهي بأناملها كلما حدّثتني عنّي.. كلما حاولت أن تقرأ السنوات في تجاعيد عمري، اعتدتُ في كل مرّة خبزت لي فيه صباحاتي المثقلة بالحياة أن أغمض عينيّ ثم أترك روحي عصفورة جناحاها دعواتها المتتابعة وأدخل في نوبة شعر:
في كتابِ النهايةِ ما أغفلتني الهوامشُ
كنتُ أقولُ لأمي التي لا تراني:
أنا أشبهُ الليل يخطو وحيدًا على ماءِ عينيكِ سوفَ أفتّش عن ضفّةٍ للصباحْ..!
وأجمعُ للفقراء الصغارِ غناءَ العصافيرِ في سدرةِ المنتهى..
أنا أشبهُ الليلَ لا تفزعي من ظلامي
سأبدأ حيث انتهى..!
أفيقُ منها حزينًا.. أو عاجزًا أو حتى منكسرًا وأنا أتخبّط في ظلام عينيها، أترك مكاني بجوارها وأمسك بقدميها أجسّ فيهما تعب القرية وذكريات الرعي، وحفريات المسارب والقفار وجوع الصحراء، كانت في كل مرة تلحُّ عليَّ أن أعود إلى مكاني فأخبرها أنني في الجنة كلما كنت معهما، تبتسم بانتشاء قائلة: “ومن يقدر على الشعراء يا ولدي ؟!”
هكذا كنا كل صباح أحاول أن أقبض عليه لأجمعه في عينيها، فتأخذني منه إليها حين تبتسم للرضا واليقين من أن الله خطف بصرها ليمنحها إيَّايَ وإخوتي، نأخذ بيدها للحياة وتأخذ بنا إلى ما لا يقدر عليه غيرها، تقاطعني لتسألني عن صوت ذلك العصفور الواقف على غصن شجرة الفناء، حين يسألها عن مائه وغذائه فتكِلُ أمره إليَّ..!
اليوم تفتح الصباحات ذراعاتها، ثم لا أجد فيها حضنًا يحتويني، يثقب صدري بردَه النافذ فلا يسألني أحدٌ عن كثافة ملابسي وعن جواربي الشتوية وقبّعة الصوف..!
حاورتُ العمى يا أماه.. تصالحتُ معه فيك حين أقنعتِني أنني عيناكِ ثم حين أغواني الرضا فيك جاءنا الموت معًا..!
لا أدري من الذي مات فينا، ضوء عينيك الذي انطفأ منذ سنواتٍ طويلة، أم صباحاتي التي أغلقت باب الجنة في وجه النهار، اعتدتُ منك الأمل.. الرضا . لكنّ الموت حقيقة صادمة يا أماه لا يترك لأملي فيك إلا وجع حقيقته ولا يقبل عليه الرضا إلا مرغمًا مهزومًا..!
ثلاثة أعوامٍ ولا يزال البرد يعود قارصًا بدونك.. يتآكل قلبي، تنخر جذعي سوسة رحيلك إلا عني، مسافرٌ أنا بعدك لأيامي معك، منذ رحيلك والطريق التيه، أشجارها تحفّني فقط لتسألني عنك، رائحة غرفتك كما هي تحتفظ بها الملائكة في أجنحتها، سجادة صلاتك لا تزال مبللّة بماء الوضوء في جبينك، وسريرك الذابل سيظل دائمًا مهيّأً للبكاء مع كل صباح..
تحدّثني أمّي وتصغي إلي:
إذا لامست يدُها فروة الحزنِ قالت:
أنتَ صغيرٌ على الحزن والذنب والذكرياتْ
قريبًا من البحرِ
ظلَّ لسانك قطعة حلوى
وصمتُكَ هدهدةُ الأغنياتْ
فماذا بعينيكَ ي اطفلَ عمري؟..
ـــ رحلتِ
وهل بعدك الآنَ إلا الشتاتْ ؟!!
________________
*صحيفة الرياض، السبت 10 جمادى الأولى 1439هـ -27 يناير 2018م