حياة الماعز.. دقيقتان لطيبة السعوديين…!
حبيب محمود
هو فيلمٌ، ووظيفة الأفلام فنية. وظيفتها أن تتحدث بحقائق “فنية”، كما تتحدث القصيدة، وتتحدث المسرحية، وتتحدث الرواية. وعلى “صانع الفن” أن يبتكر حقائق “فنية” تُحرّك المشاعر قبل كلّ شيء. وعليه أن يُوجد صلة بين “الحقائق الفنية” و “الحقائق الواقعية”.
“حياة الماعز”؛ مجموعة من الحقائق “الفنية”؛ مستلهمة من حقائق “واقعية”، ومصنوعة من أجل أن تصوّر حياة إنسانٍ اضطُهد في غربة على نحو لا يُطاق، إلى حدٍّ تحوّل فيه الضحية إلى “قاتل” للإنسان الذي اضطهده. إنها دراما سوداء حدثت ـ واقعياً ـ لدينا في السعودية، وخُتمت بنهاية خيّرةٍ أفصح عنها الفيلم نفسه..
أبناء القتيل عفوا عن قاتل أبيهم، قناعةً منهم بـ “مظلوميته” على يد والدهم..!
وما أدراك ماذا يعني ـ في السعودية ـ أن يعفو أبناء عن قاتل أبيهم، لوجه الله، أو اتّقاءً لله، أو عوناً لـ “مظلومٍ”. هذا العفو ـ في المفهوم السعودي ـ هو أن الأبناء كانوا “خصماً” لوالدهم حتى وهو قتيل. وقد قال الفيلم ذلك بواقعيةٍ، وبفنّيةٍ أيضاً. وعاد “المظلوم” إلى أهله في الهند، مُكرَّماً من أبناء القتيل..!
وقال الفيلم إن “الظالم” مجرد مواطن سعودي، أخذ “المظلوم” دون أيّ حقٍّ نظاميٍّ حتى. “الظالم” لم يكن كفيل المظلوم أصلاً. وما فعله لا علاقة له لا بنظام “الكفيل” ولا بنظام “الإقامة”. أخذه من المطار مستغلّاً جهله بالنظام، ومرّر عليه صنوف الاضطهاد في منطقة معزولة، راعياً لمواشيه..!
الذين اصطنعوا التجييش الإلكترونيّ؛ صرفوا نظرهم حتى عن “واقعية” الفيلم نفسه، وميّعوا معاناة الهندي المسكين لتسيح القصة متناثرةً مقطّعة، ومُؤوّلة على مقياس “إرادة” غامضة، تشيطن شعباً كاملاً، وبلاداً مثلها مثل أي بلاد أخرى، في تشريعاتها وتنظيماتها، ومن حقّها ألّا تؤاخَذ بما فعله مواطنٌ فيها مخالفاً أنظمتها.
تذكّرني قصة “حياة الماعز” السينمائية بـ “فيلم صحافي” مُهوَّل في تسعينيات القرن الماضي. كنتُ ـ وقتها ـ في بداية عملي في الصحافة. وقد حدثت قصة وقضية في إحدى المدن السعودية بين مواطن ومقيم عربي. القضية أخلاقية، ويمكن أن يحدث مثلها في أي مكان من العالم. يمكن أن تحدث بين مواطن ومواطن، وبين مقيم ومقيم.
وقد أخذت القضية مجراها، وصولاً إلى القضاء.
القضية لا تخلو من مأساة. وتعاطف السعوديين مع المقيم كان واضحاً. السعوديون لم يقفوا إلى جانب المواطن السعودي، لأن ما كان غامضاً في القصة كفيلٌ بالتعاطف مع المقيم العربي.
إلا أنها ـ في كل الأحوال ـ لا تعدو كونها “قضية بين متقاضيين”، وليست قضية شعبين. وما حدث هو أن إعلام الدولة العربية الشقيقة؛ جنّد آلاف الصفحات من أجل شتم السعوديين، في أخلاقهم وأعراضهم وكرامتهم.
وبالمقابل؛ كان الإعلام السعودي صامتاً. أو بالأحرى؛ طُلب إليه ألّا يردّ، حفاظاً على أواصر العلاقة.
وحين طفح الكيل؛ حُمِلت الدولة على ما كانت تتجنّبه. فأصدرت بياناً رسمياً، نشرته “واس” يومها، وأوضح البيان التفصيلي ملابسات الموضوع المنظور في القضاء.
ثم سمحت الدولة للإعلام المحلي بأن يردّ على وسائل الإعلام التي هاجمت السعودية، لا على الشعب العربي الشقيق. وُضعت ضوابط صارمة حتى لا تُمس كرامة، ولا يُعرَّض بشرف، ولا يُساء إلى سيادة الدولة الشقيقة. القصة ليست أزمة بين شعب وشعب، ولا بين دولة ودولة. إنها أزمة اصطنعها جزءٌ من الإعلام في ذلك البلد الشقيق.
وقتها؛ لم يكن هناك إنترنت، ولا تواصل اجتماعي، ولا ذباب إلكترونيٍّ، ولا مغرّدون مجنّدون لاصطناع العداوات، والتأليب، والتجييش، وتشويه السمعة، والضرب بأيدٍ مشبوهة.
“حياة الماعز”، مثلها مثل تلك القصة، قضية بين متقاضيين، فردٌ مظلوم، وفردٌ ظالم.
هناك من يريدها نُهزةً لشتم شعبٍ كامل؛ وسوف يستغلها. وهناك من يراها أحداثاً مؤلمةً قاساها إنسانٌ مسكين في حدود واقعيتها، ولا صلة لها بسمعة شعب، أو تشريعات دولة.
ربما لا وجود لأزمة في الفيلم ذاته، الأزمة في من يريد أن يجعل من الفيلم قضية.