ذكاء لهجة القطيف في كلامهم عن “فسل الحظ”
شاهد الفيديو في قناة “صُبرة” في يوتيوب
عن فسيل الحظ.. و “نغول” النخيل
لغة القطيف القديمة من صميم بيئة الزراعة
حبيب محمود
لا تحتاج نواةُ التمرة إلى أكثر من حفنة تراب وقليلٍ من بلل؛ حتى تنفلق فسيلة. ولطالما تكرّر ذلك في أفنية البيوت، وحواف الطرق، بل وحظائر البهائم. ولو تُركت تلك الفسيلة وشأنها لعرفت كيف تصل إلى الماء على طريقتها، ولمدّت وُريقاتها الصغيرة شيئاً فشيئاً حتى تتحوّل إلى سُعيفات..!
لو تُركت وشأنها لصارت نخلة.. نخلة بكامل شجاعتها وعنفوانها: جذعاً، وسعفاً، ولأخرجت كلّ عام بُكارة أنثاها، أو دقيق ذكورتها…!
بيد أنهم لا يتركونها وشأنها. إنها “فَسْلْ”. نمت من رميةٍ عشواءَ اقترفها آكلٌ على غير مبالاة. لم تنبت من ضلع نخلةٍ أمٍّ. لم تُقتطع من جذع. لم يغرسها زارعٌ. أرادت أن تنمو فنمت..!
هي “فسْل” بذرها حظٌّ، بلا عناية ولا رعاية. إنها “فسْلُ نوى” نسبُها مجهولٌ، وعِرْقُها ممسوخٌ بشُبهة. حتى وإن تلوَّن ثمرُها بصنف من الأصناف؛ فإنها تبقى “فسْل نوى”…!
لا تُترك وشأنها حين تشق التراب دون عون أحد. تُقتلع، تُدس وسائر الحشيش في علف البهائم.
كان أسلافنا يقتلعون نخيل النوى قبل أن تكبر حماية للتكاثر “المحترم”
فـَسْل الحظ.. فـَسْل النَّوى…!
ولذلك؛ وصفوا الناقص بأنه “فَسْلُ النوى”، أو “فَسْلُ الحظ”. لأنّ أمره نَبَتَ ـ بواسطة الحظ ـ من نواةٍ ما رُميت في مكان ما، على غير عناية أو قصد. وقد تقولها الأم لابنها تهكماً أو استخفافاً..!
ولها معانٍ غير النقص، فقد تعني “قلة الحياء”، خاصة حين تُوصف امرأة بـ “فسلة حظ”.
الرابط الموضوعي بين “النخلة” و “الإنسان” ـ في هذا التعبير ـ هو “النقص”، والشأن الأدنى والدّخَل. أو لنقُلْ إن صلة الإنسان بها مفقودة. يراها “دخيلة” لم يقتطعها من جذع نخلة أم، ولم يغرسها، ولم يتعهّدها بعنايته ورعايته. لم يرتّب موقعها بين أخواتها النخيل في أرضٍ يقوم على أحيائها.
فسيل نوى.. أو “فقُوْ” خرجت من الأرض متجاورة
“فَقُوْ”، في تسميةٌ أخرى
وفي الصحارى والمساحات المهملة يتكاثر نخيل “فسل النوى” و “الفَقُو” في شكل مجموعات متقاربة، أو نخلات منفردة وحيدة. ويُنبيء منظرُها عن ملامح وحشية بدائيةٍ فوضوية في تزاحم السعف وتداخل العذوق ويباس العراجين ذات الحشف العاطش.
لم تُكرَّب (التنظيف)، ولم تُنبّت (التلقيح)، ولم تُخرَف (الجنْي). وفي موسم الثمر يظهر رطبها شيصاً بلا طعم، ولا يُعرف صنفه.
مشهدها البدائيّ يشبه الإنسان الأشعث الكثّ الكالح. الإنسان الأول الهائم في الصحراء قانعاً بالقليل من الماء. الإنسان الذي لم تُدركه أناقة ولا قيافة، ولا يعنيه حتى أن يهذّب لحيته وشاربه. كلّ شيء نبت وحده، وتُرك وحده، وبنى فوضاه وحده..!
فسل الحظ/ النخلة هو المعادل الموضوعي لفسل الحظ/ الإنسان. وعليه؛ استعار الفلاّح صورة النخلة/ الناقصة ليضعها قبالة صورة الإنسان/ الناقص. الإنسان الأقل شأناً وقدْراً وجودةً وأهمية.
فسل حظ.. فسل نوى خرج وحده من الأرض
تعددت الأسماء
فسيل حظ، فسيل نوى.. فَقُوْ، نَشُوْ، سِلسْ.. ربما تتعدد الأسماء، إلا أن “فسالة الحظ” هي الصيغة الأشدّ نكايةً بالموصوف..
فسل الحظ: السيء الحظ، التافه، النكرة. وقد يتعمّق القذع حين تؤنَّث كلمة “فسل”، وتُوصَف بها امرأة.
التعبير محليٌّ جداً، لكنّه معرفيٌّ وبعمق أيضاً. معرفيٌّ على النحو الذي يفرّق بين النخلة “المحترمة” و النخلة “غير المحترمة”. معرفيٌّ وقيميٌّ، ومُستلٌّ من خبرة الفلاح الخليجيّ العابرة للقرون.
نخلة سِلْس نبتت من نواة وكبرت وتُركت وأثمرت ثمراً رديئاً في نخل الحامضي بالقديح
بين “النَّشُوْ” و “الخصبة” و “السلس”
انزياح بحراني آخر
ومثلما تطورت دلالة “خصبة” ـ أو انزاحت ـ من معنى نخل “رديء” إلى نخل “ذي جودة”؛ انزاحت دلالة “سَلْس” من معنى “تناثر” الثمر أو “تساقط” الكرب إلى معنى النخلة “الرديئة”، ولكن بسكون السين..! [العباب الزاخر: سلس، القاموس المحيط: السلس].
وفي الاصطلاح الزراعي القطيفي؛ استقرّ معنى “خُصبة” و “سلس” على معنى “نخلة نبتت من نواة”. لكن ثمر الأولى جيد يؤكَل، وثمر الأخرى رديء يُعلَف به. وكلتا النخلتين تُوصَف بـ “النَّشُوْ”، أيضاً، في اختزال لمعنى نشأتها من نواةٍ، لا “كاروب/ راكوب”، ولا من الطريقة الحديثة المعروفة بـ “النسيج”..!
وفي كلّ الأحوال؛ لا ترقى أيٌّ منهما، ولا ثمرها، إلى قدْر النخلة الأصيلة المنحدرة عن سلالةٍ نقية، على الرغم من أن ثمر بعض “الخصاب” فيه من الجودة ما يفوق بعض الأنواع الأصيلة. فما بالنا حين يكون ثمر النخلة “السلْسْ” بلا طعم ولا ميزة، حتى أنه يتناثر بلا حساب. وهذا هو المعنى الأصل الذي جاءت منه دلالة “سلس” بمعنى الرداءة. نخلة “السِّلسْ” يحتُّ ثمرها حتّاً متسارعاً.*
نغول
وإذا كانت هذه التسميات محايدة في إشاراتها القيمية، أي أنها مجرد “توصيف حال” لا يمدح ولا يذمّ؛ فإن هناك وصفَين فيهما من الشناعة ما يكفي لاحتقار نخلة “النَّشُوْ”. أحد الوصف يضع النخلة “النَّشُوْ” في موضع الشجرة غير الشرعية في نسبها. ونعت “نغول” يلحق بالنخيل المتناثرة في الصحراء نباتاً لنوىً رُمي من آكلين، وسُقيَ بصدفةِ مطرٍ أو ما شابه..!
والوصف الآخر هو “فسل النوى” أو “فسل الحظ” الذي يعني أن النواة نبتت منها فسيلة عن طريق الحظ. وهذا التعبير الحقيقي انتقل إلى المجاز، فصار يوصف به الإنسان الذي لا خير فيه.
وزبدة الكلام؛ هو أن الفلّاحين عاملوا النخلة ـ قِيميّاً ـ معاملتهم لأنفسهم من جهة الانتماء إلى أمٍّ نقيةٍ، وحرصوا على ألا يزرعوا إلا ما قُطع من نخلة أمّ، ولا يطمعوا في نخلةٍ “نشو” حتى وإن أثمرت شبيهاً بالثمر الأصيل.
نخلة نَشُوْ خنيزي، لم يعتنِ بها صاحبها لعلمه بأصلها، على الرغم من شبه ثمرها بالخنيزي، لكنها سبقت الخنيزي النقي إلى اكتساب اللون. الصورة التُقطت يوم الخميس 6 يوليو تموز 2017، في بستان “الحامضي” القديح، القطيف السعودية.
فصاحة جدّات
ولأن “فَسْل النوى” هو “فَسْلُ حظ”، ولأن المغزى هو النقص ودُنوّ الشأن والضعة والخيبة؛ فإنهم اقتبسوا آحاداً من الـ “فَسالات” عائدين إلى المعنى الأصل:
خطاب المعايرة: يا فسل الحظ، يا فسل النوى..!
التعليق بالتهكّم والتوبيخ والسّخرية: هذا من فسالة حظك، من فسالة حظه، من فسالة حظكم، من فسالة حظها..!
التأنيب: فسّل الله حظّك، فسّل الله حظكم..!
جلد الذات: يا فسالة حظي، يا فسالة حظنا..!
الجدات والأمهات يقلن ذلك لأبنائهنّ، وبناتهنّ، عند الغضب، وعند السخرية، وعند الشكوى. وقد يقولها غير الأمهات. وهي من الفصاحة.
يقول ابن منظور:
1 ـ الفَسْلُ: الرذْل النذل الذي لا مروءة له ولا جلد.
2 ـ أصلها من الفَسَل، وهو الرديء الرَّذل من كل شيء.
3 ـ يُقال: فسّله وأفسَله.
4 ـ المفسِّلة من النساء: التي إذا أراد زوجها …. اعتلّت وقالت إنني حائض، فيفسُل الزوج عنها.
5 ـ الفُسولة: الفُتور في الأمر.
شكرا على المقال