“نداء”.. أشفقت عليه من “الشبو”.. فثبتها في كرسي وأحرقها حتى الموت قصة ممرضة هربت من "رمضاء" زواج تعيس.. إلى "نار" زوج مُدمن
أطفالها يسألون: متى ستعود ماما من الجنة؟
الدمام: ياسمين الدرورة
بلطف ملاك وخفة فراشة كانت “نداء” تتنقل بين أسرة المرضى، تملأ المكان حياة ورحمة وأملاً، لا تعرف الملل ولا الكلل.
عملت في قسم ما بعد الولادة، في أحد مستشفيات المنطقة الشرقية، فكانت البلسم الذي يخفف على المريضات وطأة آلامهن، تمسك بأيديهن وتعينهن حتى يتماثلن للشفاء ويحملن صغارهن بسعادة قريرات العين.
رغم كل صفاتها الجميلة إلا أن حياتها الزوجية لم تكن مثالية كعملها، فقد انتهى زواجها الأول تاركا لها طفلين صغيرين، صبياً بعمر 5 سنوات وصبية لم تكمل عامها الثالث. وما لبث أن تقدم لخطبتها شاب يعمل في السلك العسكري، لم تجد فيه ما يعيب فوافقت عليه، وبعد فترة بسيطة تم الزواج في حفل عائلي بهيج.
الحال غير الحال
كانت حياتها تسير هادئة وسعيدة، تنشغل في عملها اليومي الذي تحبه ثم تعود محمولة على أجنحة الشوق إلى صغيريها وزوجها، فتغمرهم بحنانها ورقتها.
ولكن.. سرعان ما تبدلت الأحوال، وبدأ صفو حياتها يتعكر؛ أخلاق الزوج تغيرت دون سابق إنذار، كان يبحث عن المشاكل فإن لم يجدها افتعلها، ازدادت غيرته كثيراً، وأصبح ينزعج من خروجها إلى عملها ليلاً، لم تفهم سبباً للتغيير الذي طرأ، حاولت كثيراً أن تجد مبرراً لما يفعل لكنها لم تهتد إليه، وتطور الحال بينهما إلى الحد الذي طالبها فيه بترك عملها، رفضت طلبه فجن جنونه وزادت حالته سوءاً، وكثيرًا ما كسر قلبها وتركها باكية.
الشبو يتربص بحياتها
ومع مرور الأيام اكتشفت نداء ما لم تكن تتوقعه، سألت نفسها: كيف استطاع أن يخفي عليها أشد الواضحات؟!!، نعم.. لقد كان مدمناً، وما هذه الثورات التي يقيمها دون سبب، وكل ذلك الغضب غير المنطقي إلا بعض أعراض الإدمان الواضحة، أصابها الذهول لكنها لم تواجهه بالأمر، كان حبها له أكبر من أن تطعن كبريائه وتعريه، ظلت صامتة على أمل أن تجد طريقة تمكنها من إعادته إلى الطريق.
جرعة أكبر
زاد نهمه وتعطشه للمخدر، وزادت عدد الجرعات التي يأخذها ولم تعد أي كمية كافية لشفاء جسده الذي يئن تحت وطأة الرغبة في المزيد.
يعيش التناقض داخله، ويسعى إلى شعور المتعة المصطنعة ليدخل بعدها في فوضى مزاجية لا يستقر معها على حال؛ يعصف به القلق والاكتئاب ويقتله الوسواس.
طلبت من والدته إعانتها على علاجه حتى ولو بالإجبار، لكنها لم تنجح وباءت محاولاتها المتكررة بالفشل.
نوبات عنف وجنون
كان امتلاك منزل هو حلم نداء المستمر، وبعد طول صبر وعناء وجدت مبتغاها وتحقق الحلم؛ ها هو مفتاح المنزل بين يديها، تكاد لا تصدق؛ الفرحة تراقص قلبها وتستطيع أن تدخل جنتها الصغيرة أخيراً.
لكن فرحتها كانت مبتورة، وسعادتها مبتسرة، حيث ازداد سلوك زوجها العدواني تجاهها، وأحال بيض أيامها إلى ليال كالحة، كانت مع كل نوبة غضب تسحب صغارها لتختبئ عنه وتوصد الأبواب، وذات يوم بدى منتشياً، فأمسكها وهو يهلوس، وفجأة دخل في نوبة غضب وجن جنونه، حاولت يائسة الفرار من قبضته إلإ أن قوته بعد التعاطي تصبح مخيفة، انهال عليها بالضرب، حاولت مقاومته وإبعاده والإفلات منه، كان يقذف الأشياء ويحطم كل شيء تحت يده.
بين أهلها وأهله
أخيراً استطاعت الفكاك، كانت في مثل هذه الحالات تهرب إلى منزل والديها تارة وإلى منزل أهله تارة أخرى؛ خوفاً من أن يبطش بها فيقتلها.
شعورها بالعجز دفعها لمصارحة أهلها بموضوع إدمانه، وهنا كان خيار الطلاق للمرة الثانية هو الحل الأمثل بالنسبة لهم، وإن كان قاسياً، لكنها تريثت في طلبه آملة أن تستطيع إنقاذه وإنقاذ حياتها معه.
هدية واعتذار
في آخر مرة هربت منه إلى بيت أهله، فجاءها معتذراً نادماً، طالباً منها العودة إلى منزلهما، وأحضر معه الهدايا، جهاز جوال حديث، وباقة رائعة من الورد.
لم ترتح والدته من مبادرته ورجتها أن لا تستجيب له “ابنتي لا تذهبي معه، ابقي عندي”، إلإ أن نداء أشفقت على زوجها بعد توسلاته الكثيرة وخشيت أن تكسر قلبه، فشكرت مبادرته وسارت معه بوجه باسم وقلب مطمئن.
أخذها لتناول الغداء ثم رافقها إلى السوق وطلب منها شراء كل ما تتمناه، فابتاعت ثوب سهرة أنيق لزواج قريبتها.
وحين هبط الليل دخلا المنزل الجديد يده تعانق يدها، مصابيح الحديقة تشع ضوءاً خافتاً يتسلل إلى المكان بشاعرية حالمة، بدا النسيم عليلاً وهو يختلط بصوت حفيف الشجر، كانت ليلة هادئة في أولها تلحف فيها القمر بغيم السماء.
نشرت نداء صور الهدايا والورود في حسابها الخاص، ما جعل أهلها وصديقاتها يستبشرون بأخبار سارة ومطمئنة.
نار الارتياب
بعد قليل أخبرته بأنها ستستعد للذهاب إلى عملها، فموعد مناوبتها قد اقترب، وما إن فعلت حتى جُن جنونه وهاجمها، شدها بغتة الى كرسي وثبتها بعنف، حاولت المقاومة دون جدوى.
شتمها واتهمها، هددها بالانتقام والشرر يتطاير من عينيه، صرخت تطلب النجدة، ولكن من يسمعها؟، خاطبت قلبه حاولت أن تثنيه؛ رجته كثيراً، لكن الأصوات التي تلح في أذنه تأمره بقتلها؛ الضجيج في رأسه لا ينقطع، وفي لحظة استحوذ عليه الشيطان، جمع بعض الملابس حولها، وأشبعها بالبنزين ثم رمى شرارة من النار محرقاً حياته قبل حياتها؛ تأججت النيران متصاعدة بشكل سريع ومرعب وأتت على كل شئ في الغرفة، لحظات اختلطت فيها رائحة الدخان برائحة الموت.
خرج من المنزل هاربًا وقد اشتعلت ملابسه فيما خرجت نداء بعده بدقائق تستغيث من النار التي التصقت بجسدها، أسرع الجيران في نجدتها وطلب الإسعاف.
دقائق وامتلأ المكان بسيارات الإسعاف والدفاع المدني، تمكنوا من إخماد النار التي استعرت في منزل العمر فأحالت بعض أجزائه إلى رماد وتوشحت جدرانه الباقية بالسواد، ونُقلت نداء إلى المستشفى.
لم يتمكن زوج نداء من تحمل ألم الحروق التي غطّت أجزاء متفرقة من جسده فلجأ إلى المشفى مدعيًا أن (رديتر) السيارة انفجر في وجهه، لكن نوع الحروق وشدتها ورائحة المادة الحارقة تفوح منه وتؤكد تورطه في الحادثة، فقبض عليه.
وبعد الفحوصات أكدت التحاليل الصادرة من مركز السموم تعاطيه أكثر من نوع من المواد المخدرة، ولا يزال الزوج لحد الآن خلف قضبان السجن منذ 3 سنوات بانتظار الحكم النهائي.
بين الحياة والموت
وصل الخبر إلى أهل نداء، فوقع عليهم كالصاعقة، ذهبوا إلى المستشفى مسرعين، واستقبلهم الطبيب بوجه متجهم قائلاً “ليس هنالك ما يقال”، و بعد إلحاحهم في السؤال قال لهم إن “وضعها غير مستقر؛ وإصاباتها بليغة، نسبة الحروق كبيرة، لكننا سنسعى للحفاظ على حياتها”، لم تحتمل الأم قسوة ما سمعته من الطبيب فوقعت مغشياً عليها، وارتفع صراخ أخواتها وبكاءهن، ولم يكن الأب أفضل حالاً من الأم فقد كان يستند على الجدار خشية السقوط فرجلاه لم تعودا قادرتان على حمله.
وحدة الحروق
نقلت نداء من المستشفى الذي استقبلها إلى وحدة الحروق في البرج الطبي بالدمام.
كان جسدها مغطى تماما بالشاش، كانت تصف الليلة المشؤومة للممرضات بأنها من أجمل الليالي في حياتها إلإ أنها انقلبت إلى كابوس مرعب.
سعى الأطباء للتبريد عليها بتشغيل مراوح الهواء، كما كانت هناك اجراءات مشددة أثناء الزيارة، فالاقتراب ممنوع تحسبًا لنقل أي عدوى قد تنهي حياتها.
لم تتركها صديقاتها ولم يتوقفن عن زيارتها، أو الدعاء لها بالنجاة والعودة كما كانت، لكن الألم المستمر وفقدانها البصر جعلاها تفقد الأمل بالحياة والرغبة فيها، فرفضت الأكل والشرب وطالبت بالكثير من المسكنات رجاء أن تسكن أوجاعها.
عاشت نداء 7 أشهر بعد الحادثة في عذاب مقيم، وفي يوم رحيم رحلت إلى بارئها متأثرة بإصابتها البليغة.
متى ستعود ماما؟
الألم الذي خلفه رحيلها لم يسكن في قلوب فاقديها، لكن الأصعب منه كان سؤال الصغار عن والدتهم التي أخبروهم عن سفرها إلى الجنة.
ورغم كل الجمال في الجنة البعيدة، كانت رؤيتهم لطفل برفقة أمه تجدد سؤالهم ونظرات العتب “متى ستعود ماما من الجنة؟؟”.