في مركزي القطيف.. شوط الشبعان على الجوعان بَطِيْ
حبيب محمود
في إحدى أزمات صحيفة “الشرق” المالية؛ دخل عليّ زميل سوداني، وقال لي حرفياً “ما عندي قيمة خبز أدخل به بيتي الليلة”..!
ومع أن موقعي في الصحيفة لم يكن يسمح لي بتخطّي رئيس التحرير في أي تواصل إداري؛ أقدمتُ على فعلٍ ليس من صلاحياتي مُطلقاً. وتحت تأثير هورمون “اللقافة”؛ اتصلت بالقائم بمهام رئيس مجلس إدارة الشركة، ونقلتُ إليه ما قاله الزميل.. حرفياً.
الرجل ما زال حياً يُرزق، وأنا لا أشهد له، ولا أشهد عليه. لكنّ تلك المكالمة حرّكت راكداً محدوداً ليلتها. وفي أقلّ من ساعة تحوّل مكتبي إلى ما يشبه مكتب أمين صندوق..!
جاء مبلغ 50 ألف ريال نقداً، وطُلب إليّ تقسيمها على الزملاء الموجودين بالتساوي، وهذه المبالغ سُلّمت لكلٍّ منهم في شكل “سُلف” تُخصم من رواتبهم لاحقاً. أيّاً كانت الصيغة المحاسبية؛ كان ذلك الإجراء “إغاثة ملهوف” فعلياً وحرفياً وعملياً.. بكلّ ما تعني القصة من ألم..!
طلبتُ إلى زميل آخر أن يعدّ جدولاً، ويجلس إلى جانب مكتبي، ويسلّم كلّ زميل “سُلفته”، ويأخذ توقيعه على الاستلام. وهكذا عاد الزملاء إلى أسرهم، تلك الليلة، حاملين بعض “القوت”..!
بعدها بأسابيع؛ حدثت قصة مماثلة، وتدخّل فيها القائم بمهام المدير العام ونائب رئيس التحرير، وأغيثَ بعض “الملهوفين” بمبالغ صغيرة لشراء ضروريات..!
كان الزملاء يدخلون عليّ المكتب، إما شاكين، أو مقترحين التوقف عن العمل. غير أنني لم أكن مقتنعاً بالخيار الثاني، لأسباب كثيرة، أولها أن الصحيفة حين تتوقف؛ فإنها لن تصدر مجدداً. وهو أمرٌ مؤلمٌ لنا، نحن المؤسسين الصابرين الصامدين..!
وثانيها؛ هو ما أحمله من انعدام ثقةٍ في القرارات الجماعية. أكثرهم يقترحون التوقف بحماسةٍ؛ وحين تتخذ القرار الذي تحمّسوا له؛ لا يصمد منهم أحد..!
يتركونك وحدك مثل “زعيم تمرُّد” لا أنصار له..!
كانت أزمة تأخر الرواتب على أشدّها، وفي مثل هذا الشهر ـ مايو 2017 ـ اتّخذنا القرار النهائي في مسألة عجز الشركة عن دفع الرواتب.. توقفنا، وتوقفت صحيفة الشرق إلى الأبد..!
لماذا أتذكّر هذه القصة التي أبدو فيها مثل بطلٍ بلا بطولة..؟
السبب هو ما تتلقاه “صُبرة” منذ أسابيع طويلة؛ من اتصالات متكررة من حراس أمن في مستشفى القطيف المركزي، يتضوّرون انتظاراً لرواتب متأخرة. وأعرف ـ شخصياً ـ أن بعض قيادات المستشفى ـ وموظفيها ـ تعاطفوا مع الحراس، ودفعوا من جيوبهم تبرعاتٍ لبعضهم، وبذلوا جهوداً من أجل تخفيف أزمات العائلات المتضررة..!
لكنّ “الجوع” لا يفهم ولا يتفاهم، وبذل ماء الوجهِ؛ إن استدرّ اليومَ شفقةً؛ فإنه سيتحوّل ـ غداً ـ إلى سخرية واستخفاف بمن بذل ماء وجهه من أجل شراء “حفاظات” لطفله..!
وفي بلادنا مثل شعبيٌّ صادقٌ كل الصدق.. يقول “شوط الشبعان على الجوعانْ بَطِيْ”، أي أن حماسة “الشبعان” بطيئة تجاه “الجوعان”، لأنه ليس جائعاً مثله..!
أسبوعياً؛ تتلقّى “صُبرة” اتصالاً أو اتصالين من حرّاس أمن يريدون طرح قضيتهم من جديد. ومراراً؛ أبلغناهم بأن عليهم رفع دعاوى عند الجهة المعنية، فنحن ـ ولله الحمد ـ في دولة نظام، ولديها خطٌّ أحمر اسمه “حماية الأجور”. وأبواب الجهة المعنية مفتوحة مكانياً وإلكترونياً.
أما التوقف عن العمل؛ فنحن لا ننصح به، بل ندعو إلى الاستمرار فيه، ومتابعة القضايا عند مكتب العمل. والحقّ لا يضيع، بإذن الله.