[القديح تتذكر] في مستشفى القطيف المركزي

صُبرة: خاص

كان مستوصف الجمعية الذي يقع في مدخل البلدة الشرقي هو المتجه الأول لكل المسعفين بحكم قرب المسافة وحالة الارتباك العارمة. غير أنه باستعداداته الضئيلة ـ كونه مستوصفاً ـ لم يستطع أن يستوعب ولو عدداً معقولاً من المصابات، خاصة ذوات الإصابات الخطرة. ولذلك لم يستطع المستوصف بما فيه من كادر طبي استدعيَ على عجل أن يواجه الكارثة إلا في حدود متواضعة، عبر الإسعافات الأولية ونقل الجثة أو المصابة إلى مستشفى القطيف المركزي، أو مستشفى صفوى.

وقد تركز الضغط، وبشكل مرعب وثقيل أيضاً، على مستشفى القطيف المركزي الذي فوجيء كل العاملين فيه بالعدد الكبير الذي وصلهم وبالحالات التي كان كثير منها حرجاً.

حكيم أبو سلطان، كان موظف استقبال في المستشفى، وليلتها كان على رأس العمل، وشاهد الحالات الأولى التي وضعته ـ كما يقول ـ في حالة هستريا بعد رأى مارأى.

يقول حكيم أبو سلطان:

عملي في استقبال الطواريء عودني مشاهدة الكثير من الحالات الخطرة والحرجة، غير أن ما حدث تلك الليلة فاق كل ما رأيته طيلة عملي في المستشفى. المشهد الأول كان مع رجل من البلدة جاء برفقة امرأة محترقة، وبطبيعة عملي قمت بالعمل المعتاد بتسجيل الحالة التي أدخلت الإسعاف بسرعة، ولكن الرجل لم يكد يصل إلى القسم الخاص بإسعاف النساء حتى دخل رجل غيره، وتلاه ثالث ورابع وخامس.. ولم تمض بضع دقائق حتى امتلأ المكان بالمسعفين والجثث والمصابات..

وقبل أن أفهم ما حدث وجدت نفسي أركض في أدوار المستشفى وأنادي الأطباء أن يذهبوا بسرعة إلى قسم الطواريء.. كما استنفر المستشفى كل طاقاته وتم استدعاء الأطباء والممرضين والممرضات..

والوضع المربك بين الأهالي القلقين على نسائهم وأطفالهم تلك الليلة يمكن أن نقع على بعض تفاصيله في شاهدة زلفة عبدالله الدار. وهي ممرضة سابقة في مستشفى القطيف المركزي، اندفعت تلك الليلة إلى المستشفى ـ وهي مستقيلة ـ لتساهم في الإغاثة متطوعة، وهو ما يعكس هول ماحدث..

تقول زلفة:

عند سماعي للخبر في الحادية عشر والربع مساءً لم أستطع عمل شئ غير أن أتصل بتلك أو تلك من الزميلات لأتأكد من حقيقة ما حدث.. والدتي وأخواتي اربكنني ولأنني ممرضة سابقة أردن مني التأكد من الأمر، وعندما تأكد الخبر أصبح المنزل مأتما.

عندها اتصلت بصديقة لي ممرضة تعمل في نفس المستشفى فعلمت أنها في إجازة مرضيه قطعتها. حدثتني بالجوال عند وصولها وقالت: (إنها القيامة) فزادتني اضطراباً لم أجد معه غير ارتداء ملابس التمريض التي أهملتها منذ مدة والاتجاه نحو المستشفى.

.. في الطريق كانت مخيلتي تتوقع المناظر المعتادة في حالات الطوارئ، ولكن بمجرد وصولي إلى الشارع المؤدي إلى المستشفى قفز خيالي إلى ما هو أبعد من المناظر المتوقعة. واجهنا شرطة الدوريات تنظم الحركة المروية وتبعد أي سيارة غير سيارات الإسعاف من الطريق. وخفت أن تمنعنا من الاقتراب للمستشفى.. رحت أصرخ بصوت عالي دون أن أشعر: (أنا ممرضه…أنا ممرضه…أنا ممرضه) لكن أحد الجنود لم يعِ ما أقول فوجه لي أوامر الابتعاد عن شارع المستشفى ولكن شرطياً آخر سمع ما قلته فأفسح لنا الطريق.

..لم يكن الطريق نفسه الطريق الذي كنت أمر منه يومياً على مدى تسع سنوات متتالية.. إنه طريق مختلف.. الناس مفجوعون.. الرجال في كل مكان.. سياراتهم هنا وهناك.. وجوههم مصفرة.. إنها زوجاتهم وبناتهم وأطفالهم، ينتظرون أي خبر عنهن..

شاب هائم

.. وحين وصلت و فتحت باب السيارة، فاجأني شاب هائم على وجه في ساحة المستشفى كان مشهده يفضح الإجهاد الذي تلبسه كاملاً.. كان حافياً.. هذا الشاب خاطبني حتى قبل أن أقفل باب السيارة وكأنني جئت إليه ولمن في المستشفى بمعجزة. كان يقول لي: (أسرعي .. أسرعي وقولي لحشود الرجال أنا ممرضة حتى يفسحوا لك الطريق).  كان الزحام هائلاً.. لم أتمكن من المرور من المدخل الرئيسي.. اخترت مدخلاً آخر فلحق بي الشاب وقد خيل ليّ بأنه فقد صوابه.

أخذت أهرول بين الرجال، وقبل أن يتفوه شرطي هناك بكلمة لإبعادي قلت بصوت مسموع: أنا ممرضه فتركني.

جاؤوا من بيوتهم

الجميع في المستشفى بالنسبة ليّ معروف والكل تخلى عن راحته وأتى في غير دوامه.. شعرت بأن مجيئي كان صواباً.. الكل يتسابق ليقدم العون لناس والمصابين والخدمات للأهالي.. وضمن من حضر وكيل أمارة المنطقة الشرقية للشئون الإدارية الأستاذ زارب القحطاني ود.أحمد العلي مدير عام الشئون الطبية بالشرقية و د.حسين شعبان المدير الطبي للمستشفى وكبار ضباط ومسئولين بالشرقية وجميع الموظفين والممرضات والإداريين والعاملين..

كان الجميع يعملون.

أكبر من الألم

.. حين وصلت إلى موقع الجرحى والمصابين لم يكن هناك صراخ ولا نحيب ولا بكاء كما تصورت بل سكون ووجوم.. كانت الإصابات الشديدة أكبر من الآلام وذوات الإصابات المتوسطة لم يزلن في ذهول بما جرى لهن. ولأن لديهن ألف سؤال وسؤالاً، ولكنهم لا يجرؤن على سؤالنا لخوفهن من الإجابة.

ولقد شهدت: رجالاً يصعدون إلى قسم النساء ليتعرفوا على زوجاتهم ولم يكن من الممكن أن نكشف كل النساء لهم. ومن تستطيع الحديث كان بالإمكان إحضار أحد من أهلها عند ذكر اسمها.

عن الأولاد

ومما شهدت: زوج أتى إلى زوجته وأنا أغطي جراحها فسألها عن أربعة من أولادها وهي لم يكن عندها أي جواب. ثم أخذ يسألني عنهم وأنا في ذهول ولا أدري بماذا أجيبه، وأنا أعلم أن أكثر الضحايا أطفال ونساء، فطلبت منه أن يتجه للمسئولين بالإسعاف وهناك يجد‘من يساعده وحتى أُبعدْه وأبعد فكره قد ينقلها إلى زوجته المصابة وكنت خائفة أن يقرأ في عيني أي جواب له.

ومما شهدت أيضاً: رجال جاءوا يسألوننا عن ذويهم سماتهم تدل على قوة شخصيتهم وقد خارت قواهم وكانوا على وشك الإغماء من هول أفكارهم ومما قد يكون حلَّ بعوائلهم.

في الرابعة فجرا

وبعد الإنتهاء من واجبنا في قسم النساء وعند الساعة الرابعة فجراً وبعد تأدية صلاة الفجر توجهت إلى قسم الإسعاف، وكانت الفاجعة العظمى موقع الشهيدات.

كانت زميلة لي في الداخل تقوم مع بعض الممرضات الأجنبيات بتجهيز الشهيدات لنقلهن، فأخذت الأذن من المدير الطبي في مستشفى القطيف للدخول ومساعدة زميلتي وحتى أقوم بواجبي بدلاً من الممرضات الأجنبيات. وعند دخولي إلى المكان نظرت إليّ زميلتي بحزن شديد وتبادلنا النظرات دون تحية وكأننا نعزي بعضنا البعض في أهلنا ومصابنا الجلل. ثم انضمت إلينا زميله أخرى.

وعند التحاقي إلى الغرفة الأولى للشهيدات كدت أسقط على الأرض من هول ما رأيت لولا لطف الله تعالى وشعوري بالواجب وبأن هذا عطاء من الله وحده كانا يمدني بالقوة. وان ما عاينته في تلك الليلة المشؤومة هو ليس إصابة سبع دقائق كما نقل ، بل هو نار تسعر في أجسادهن يوما كاملا.

عمق الإصابات

طبيا تصنف إصابات الحريق بالدرجة الأولى أو الثانية أو الثالثة. ولكن تلك المشاهد هي اكثر من أن تصنف بالدرجة حتى الرابعة .

لقد كانت أجسادهن مسجاة على الأرض وكل شهيدة مغطاة بسجادة من بقايا الخيمة أو ببطانية أو بشرشف أو (مشمر) وقد لففن من قبل الناس. وبالرغم من أنني لففت حجابي حول وجهي إلا أنني مازلت أشم رائحة الشواء.

وكلما كشفنا عن شهيدة لتجهيزها، وجدناها اكثر فاجعة من التي قبلها وكأن لكل واحدة قصة وكل وجه يروي جزءاً مرعباً من الآلام التي عاصرتها قبل أن تفارق الروح الجسد.

إحداهن ضمت يدها إلى صدرها كأنما تحاول أن تحفظ بقايا روح. وأخرى يد لها ممتدة إلى أقصى ما عندها. وأخرى انفرجت يداها كأنها كانت تحاول التشبث بخيط للنجاة أو الزحف لإنقاذ نفسها أو أحد من ذويها.

شهيدة وقلادة

ومن بينهن شهيدة كانت ترتدي قلادة وهذه لم تتغير ملامح وجهها بالرغم من أن جسدها اختفت معالمه كلها.

النار لم تخفِ معالمهن وحسب بل تسلطت على أعضائهن الداخلية وجميعهن فقدن شعرهن. بل اصبحن  بشكل (…….)، كأنه قد مضى على موتهن مئات السنين. كنت كلما حاولت أن أكشف عن وجه إحداهن أشعر بالهول مما قد سوف اقرأ عليهن من مآسي.

في التجهيز اعتمدنا على تخمين أعمارهن بواسطة الطول وما شابه ذلك وعن طريق نوع  الذهب المتبقي عليهن لأن جميعهن تشابهن في الملامح. ومن شدة تسلط النار واجتياز حدودها لم نستطيع إصلاح أوضاعهن من شدة تصلب أعضائهن.

وبعد تحديد العمر كنا نرفق مع كل شهيدة على رسغها  سوارة من البلاستيك كتب عليها العمر ورقم. وكان هناك بطاقة ترفق مع كل شهيدة وقبل لفها تصور من قبل الشرطة، ونقوم نحن النساء بتجهيز الشهيدة للصورة بعد أن نغطيها تماما ماعدا الوجه ، ثم نسمح لرجل الشرطة بالدخول لالتقاط الصورة ومن ثم ترسل إلى سيارة الإسعاف المعنية بعد أن يكمل لفها.

ومما أذكر: أن أحد الضباط المتواجدين استأذننا للدخول وقد خطرت على باله فكرة قد تساعد الأهالي في معرفة ذويهم وسألني:هل من الممكن أخذ البصمات للشهداء؟!

فأجبته: وكيف ذلك والبصمات توجد بوجود الأنامل وجلد الأصابع، وهؤلاء قد خلعن جلودهن وما تحت جلودهن؟

للعودة إلى أول الملف الوثائقي اضغط:

القديح تتذكر

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×