[القديح تتذكر] المسعفون الأوائل يسردون ما حدث

صُبرة: خاص

شهادات النساء حول وقت نشوب الحريق لم تعطنا فرصة للتخمين القريب من الدقة، وهو سبب جعلنا نعتمد في التخمين على شهادات الرجال، وعلى وجه التحديد شهادة والد العروس علوي ناصر أبو الرحي، وابنه أمين، إضافة إلى شهادة شخص ثالث هو إبراهيم حسن أبو الرحي (العسكري)  وهؤلاء الثلاثة هم المسعفون الأوائل. فقد كانوا على مقربة شديدة من الخيمة.

وبناء على ما ذكره الثلاثة (وهو تقريب فقط) فإن الحريق نشب بين العاشرة وخمس عشرة دقيقة والعاشرة وخمس وأربعين.

والد العروس علوي أبو الرحي، عرف ببداية الحريق من ابنه “أمين” وهذا الأخير عرف من ابن عمه إبراهيم العسكري، الذي شاهد النار في أعلى غرب الخيمة، فلفت نظر أمين، وأمين نادى أباه.

يقول والد العروس علوي ناصر أبو الرحي:

“كنت بالقرب من الخيمة بوصفي والد العروس والمسؤول عن هذا التجمع النسائي، وبفعل هذا الدور، رحت أراقب مجموعة من الصبية حول الخيمة، وأطلب منهم الابتعاد عن النساء. كان عملي اعتيادياً في وضع مثل هذا الوضع. كان الصبية يقتربون من الخيمة، البعض منهم يستقل دراجة هوائية، والبعض كان ماشياً”.

“أثناء انشغالي بهذا الأمر لمحت مجموعة من الأولاد على بعد أكثر من خمسين متراً غربي الخيمة تحلقوا حول نار صغيرة، فخطرت لي فكرة نهيهم عن هذا العبث، فاتجهت إليهم. وما إن قطعت بعض الخطوات حتى سمعت صوت ابني “أمين” يصرخ: “حريق.. حريق”..‍!

وحين سمعت صرخة أمين أدرت بوجهي نحو الخيمة، فإذا بدخان يتصاعد من منطقة قريبة من الزاوية الغربية الشمالية، ومن الدخان انطلق لسان نار مرعب في مثل لمح البصر، ثم اتجه اللسان الأحمر نحو الشرق، في سقف الخيمة. عدت راكضاً نحو الرواق.. دخلت الخيمة.. ورحت أنادي النساء ليخرجن بسرعة، ورحت أصرخ وأصرخ، وأجر بعضهن إلى الخارج. كنت ذاهلاً من هول ما أرى، ولم ألتفت بعد ذلك إلا وأنا على سرير أبيض.

سألت من حولي: أين أنا؟

فقيل لي: في مستشفى صفوى.

شقيق العروس

أما أمين، ابن علوي وشقيق العروس، فشهادته تكمل المشهد الذي رواه والده، وهو الشخص الثاني الذي شاهد الحريق.. إنه يقول:

“كنت في شقتي، ووالدي في الخارج، أردت الخروج لمرافقة الوالد في رعاية الوضع. خرجت من المنزل (في الساعة 10.37) متجهاً نحو الخيمة سالكاً طريق الزقاق الغربي الذي يشبه الطريق الدائري، وعند وصولي إلى الخيمة من الجهة الغربية لمحت صبياً يقف عند الزاوية الغربية الشمالية، فاتجهت إليه..

حين وصلت إليه طلبت إليه الابتعاد. وفجأة سمعت ابن عمي” إبراهيم العسكري” يصرخ من جهة الغرب: “نار”. فرفعت وجهي نحو أعلى الخيمة وشاهدت النار في موقع قريب من الزاوية الغربية الشمالية. وبلا تركيز صرخت باتجاه الوالد: “حريق.. حريق”..!

بعدها هرعت نحو الرواق، بقصد الدخول إلى الخيمة وإطفاء النار من الداخل، غير أن زحام الخارجات منعني، بل وجدت دخولي سيكون عائقاً في سبيل نجاتهن كما أن النار وصلت إلى قرابة عشرين في المائة من الخيمة، فتوقفت في الرواق، ورحت أدفع بالنساء للخروج دفعاً.

تذكرت الكهرباء، فأسرعت إلى المفتاح الرئيسي فوجدت “إبراهيم” سبقني، فعدت نحو الخيمة.

عدت، للخيمة، وهناك كان مشهد مرعب ينتظرني، مشهد الأيادي التي كانت تحاول النجاة من أسفل الخيمة شرقي الباب.. كانت محاولات شبه يائسة لأطفال ونساء لم تجد في الباب فرصة للنجاة بسبب ضيقه والتزاحم عليه. حاولت رفع قماش الخيمة، وجاء شخص ليساعدني في الرفع، وخرجتْ من الفتحة الصغيرة كثيرات، بعضهن فيهن إصابات.

تركت الفتحة للشخص الذي معي وأسرعت إلى المنزل للاتصال بالدفاع المدني الذين أخبروني بأن لديهم علماً وأن الفرقة في الطريق إلى الموقع..!

وحين عدت إلى الخيمة، بنفس  السرعة التي تركتها فيها، كان كل شيء قد انتهى..!

بقايا نار في الكوشة، والرواق، وأجهزة التكييف..

لم يبق إلا الجثث.. وصراخ الجريحات.. والناس.. والزحام.. والسيارات التي جاءت لتنقل من يمكن نقلها إلى المستشفيات.. لم أجد أمام هذا الوضع إلا البحث بين جثث الأطفال عن الأحياء، وتسليمهم إلى المسعفين..!

إبلاغ الدفاع المدني

مصطفى محسن أبو الرحي، ابن عم العروس، صبي عمره 15 سنة، وهو أول من اتصل بالدفاع المدني، حسب تقصينا، وقد كان وقت نشوب الحريق، في مجلس بيت عمه، والد العروس، برفقة أحد أبناء عمه.

كلاهما سمعا الصراخ قادماً من جهة الخيمة. فاتجه ابن عمه ليبلغ الرجال، بينما اتجه مصطفى إلى الخيمة من الجهة الغربية، وهو طريق يفرض عليه أن يسلك طريقاً شبه دائري طويل نسبياً، فلما اقترب من الخيمة لمح ابن عمه أمين (شقيق العروس/ الشاهد السابق) وهو يدخل الرواق في محاولة لإنقاذ النساء.

عندها اتجه مصطفى إلى بيتهم المقابل للخيمة لإبلاغ الدفاع المدني، وأثناء حديثه مع الدفاع المدني دخلت عليه والدته وقالت له بلغة منكسرة: (أنا احترقت)، وبدون تركيز لمس يدها المحترقة وصرخ صرخة قوية، وسقطت السماعة من يده.

وبتلقائية صبي في الخامسة عشرة راح يخرج قِرَب الماء المقطر لعلها تجدي في إطفاء الحريق، لكنه انتبه، بعد ذلك، إلى مهمة أجدى هي إحضار البطانيات والشراشف من منزلهم لستر النساء.

أول من رأى

أما شهادة إبراهيم حسن أبو الرحي (العسكري) فهي شهادة أول من رأى بداية النار من الرجال، فقد شاهدها على مسافة خمسة أمتار غربي الخيمة، في صورة لسان نار صغير أعلى الغرب، فلفت نظر ابن عمه أمين صارخاً، ثم اتجه رأساً إلى مفتاح الكهرباء وأطفأه..

يقول إبراهيم:

”اتجهت بعدها إلى باب الخيمة الذي كان مزدحماً بالنساء والأطفال الفارين من الداخل. كانت النار كبيرة في الداخل. بعض النساء والأطفال سقط عند الباب ونساء خرجن، البعض يطأ البعض الآخر. رحت أسحب من تصل إليها يدي نحو الخارج. في الأثناء سمعت صوت امرأة كبيرة في السن تناديني: “ولدي.. اسحبني”، ظننتها والدتي، سحبتها، رحت أسحب غيرها، والنار تتزايد. حملت قطعة سجادة ورحت أضرب طرف النار، وهي تتزايد، وصوتها يرتفع أكثر. عشت حيرة صعبة بين مقاومة النار و سحب النساء.

عندها انكشف جزء كبير من واجهة الخيمة الجنوبية، وامتد لسان الحريق فجأة نحوي وبقوة، وبدا مشهد أكثر رعباً، فقد كانت النساء تخرج من قلب النار، وكثير منهن في الداخل يحترقن، تأكد لي أن بيني وبين النساء والأطفال في الداخل حاجزاً نارياً من المستحيل مواجهته. كانت محاولاتي ضرب أطراف الخيمة بقطعة السجادة يائسة، لكنها صارت أكثر يأساً بعد أن انكشفت الواجهة.

أصعب مشهد آلمني وأنا أشعر بالعجز عن فعل شيء هو مشهد طفل في السادسة تقريباً، كان واقفاً يحترق، النار في جسده كاملاً، بقيت عيناي تطالعه حتى سقط ميتاً وبعد أن خمدت النار ودخلت برفقة المسعفين الخيمة وجدت الطفل.. كان متفحماً بالكامل، وعلى هيئته واقفاً”.

“في حالة ارتباكي وعجزي؛ دخلت بيت عمي محسن أبو الرحي الذي يقع قبالة الخيمة، بحثت عن الهاتف، كان المنزل مظلماً، وأنا مرتبك أكثر وحين وجدت الهاتف اتصلت على الاستعلامات (905) بدلاً من الدفاع المدني، لكن موظف الاستعلامات تفهم حالتي واتصل أمامي بالدفاع المدني مباشرة. ثم تركت الهاتف وعدت إلى موقع الحريق الذي كشفت نهايته عن الكارثة التي لن أنسى تفاصيلها طيلة حياتي”.

بعد فوات الأوان

ماجد محسن أبو الرحي، هو ابن عم العروس، يعيش في منزل والده الملاصق لبيت عمه،  ومنزل والده يقع قبالة الخيمة مباشرة. وماجد لم يكن في الموقع وقت الحادث، فقد كان بمعية شباب في شقة شاب اسمه هشام العلوي تقع في مدخل البلدة. وفي الساعة العاشرة وخمس وأربعين دقيقة تلقى أمين علوي حسن أبو الرحي، وهو أحد الموجودين في المجلس، اتصالاً من زوجته مستنجدة، و زوجته في الخيمة.. ففزع الجميع إلى الموقع، ومنهم ماجد.. شاهد العيان..

يقول ماجد:

“حين وصلنا كان كل شيء قد انتهى”. كان مشهداً مرعباً.. جثث في مكان الخيمة.. بقايا نار تشتعل في الكوشة والمكيفات والرواق، والأعظم أن كومة من الجثث كانت النار تشتعل بهدوء في أطرافها. والمرعب أكثر أن هول الكارثة شلت الناس الـذين وصلوا قبلنا إلى درجة أن بعضهم وقف متفرجاً مشلولاً. الجثث أمامهم وقليل منهم من يصنع شيئاً.. رحت أصرخ في الناس ليسعفوا المصابات، أو يرفعوا الجثث.. ووصل الدفاع المدني..”

“البعض راح يحضر بطانيات لستر النساء ورفع الجثث فيها، فرقة الدفاع المدني راحت تمدد الخراطيم، فتناولت خرطوماً واقتربت من الجثث التي كانت النار فيها ورششتها بعد وضع يدي في فوهة الخرطوم حتى ليتدفق الماء برفق.. بعدها دخلت البيت، وهو مقابل للخيمة، فوجدت والدتي (علوية جعفر الشاخوري) مصابة لكنها تحتفظ بقوتها فصحبتها إلى الخارج.. أوصلتها إلى سيارة (هايلكس غمارتين) ورافقتها امرأة أخرى.

كانت ملاحظاتي عن إصابة الوالدة لا تشير إلى خطورة، لكن حين زرناها في المستشفى اكتشفنا أن إصابتها شملت ذراعها اليسرى كاملة والكتفين وخلف الرقبة وجزءاً من الظهر، إضافة إلى أغلب ذراعها اليمنى والصدر.

المهم أنني تركت والدتي في السيارة وعدت إلى المنزل. وقد كان التيار الكهربائي منقطعاً، لم أهتم بالظلام، لكنني بعد أن دخلت رأيت امرأة في حالة صعبة جلست واستندت إلى الجدار. وبشعور مؤلم نزعت ستارة الباب وغطيتها. ولم تكن المرأة الوحيدة، بل هناك غيرها مثلها أيضاً، فرحت أبحث في الغرف عما يسترهن، وأحضرت (مشامر) وشراشف، ثم دعوت الرجال في الخارج إلى نقلهن إلى المستشفيات، وقد رافقت إحداهن إلى مستوصف الجمعية، ثم عدت إلى موقع الخيمة”.

البلدة تركض

تراكض كل من في القديح، وقتها، إلى حيث قتلت عشرات النساء والأطفال بألسنة النار. لم يكن إلا الرعب هناك، سقط كثيرون مغشياً عليهم، وتسمّر كثيرون، وتشجّع كثيرون فنقلوا الموتى والمصابات بسيارتهم إلى المستشفيات.

عبدالمحسن آل كمال واحد من المسعفين الذين وصلوا بعد الحادث مباشرة.. وشوهد وهو يلطم رجالاً وقفوا متسمرين أمام بقايا الحريق دون حركة.. كانت لطماته محاولة لإفاقة الغائبين عن الوعي وهم واقفون..!

وحين وصلت سيارات الدفاع المدني كانت النار قد قالت كلمتها، وتركت تحت الخيمة المحترقة ركاماً من الجثث التي فاضت أرواحها قبل وصول النجدة. المنجدون الأوائل لم يكونوا يملكون أدنى حيلة أمام السنة النيران وفحيحها المرعب، رغم المحاولات التي دفعتهم إلى المخاطرة.. النار كانت أقسى وأسرع، وكانت البطولة أقل من أن تغير نتيجة الكارثة، أو حتى تعدل فيها..!

كان وصف الموجودين للكارثة أشد قسوة على الأهالي من الكارثة ذاتها. إذ نقل الناس في سياراتهم 174 امرأة وطفلاً إلى المستشفيات. شمل هذا العدد جثثاً متفحمة وأحياءً مصابين إصابات مختلفة. ووسط الصدمة لم يميز أحدٌ من المسعفين أحداً من المنقولات إلا نادراً.

وتفجرت مشكلة التعرف على النساء.. لا أحد يعرف نقل من أو أسعف من.. كان المسعف يسلم الجثة، أو المصابة، إلى المستشفى ثم يعود إلى الموقع باحثاً عن مهمة أخرى..! وعاش آلاف الناس فجيعة من نوع أشد ضراوة من معرفة الحقيقة على ما فيها من فجيعة..!

 

للعودة إلى أول الملف الوثائقي اضغط:

القديح تتذكر

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×