بناتنا في الصحراء 3] فاطمة المقرقش: طرقتُ أبواب الناس في “الشَّيّط” لإنقاذ زميلتي أم خالد الدوسري عاملتني مثل ابنتها.. واحتضنت طفليّ.. وابتسام مخيزم أختي السابعة

إهداء إلى بنات القطيف اللائي واجهن الصعاب، وذهبن إلى مناطق نائية من وطنهنّ، ليشاركن في أداء رسالة الدولة في قطاعات التعليم والصحة والخدمات.

هذه قصة من قصص، تعمل “صُبرة” على توثيقها، احتراماً لذلك الدور الذي بذلته بنات القطيف.

القطيف: أمل سعيد

ماء غير صالح للشرب وآلام مخاض، وطفل يشكو بُعد أمه، ورنات البيجر، وهجرة تنام قبل المقيمين فيها، والكثير من تفاصيل الزمان والمكان.. هكذا تنبسط الحكاية على لسان فاطمة المقرقش خريجة كلية الآداب التي عاشت سنة اغترابها في الصحراء..

إنها البنت الكُبرى، بين 7 بنات و5 أولاد.. ومن أوائل المعلمات في مسقط رأسها، حلة محيش بمحافظة القطيف. بعد 3 سنوات من تخرجها من كلية الآداب بالدمام (جامعة الإمام حالياً) جاءها قرار التعين، فرحت كثيراً، لكنها كانت فرحة مشوبة بقلق طبيعي، فهي أم لطفلين، أكبرهما “زكي” وعمره سنتان، وأحمد الصغير الذي لم يكمل شهره الثالث بعد، وعليها أن تتركهما وتبتعد مئات الكيلومترات.

تقول فاطمة “تخرجت عام 1411هـ، وتوظفت في هجرة الشيّط سنة 1414هـ، وهي تابعة للمحافظة قرية العليا، وتبعد عنها قرابة الساعة”، وتستدرك “لم تكن ساعة تشبه أي ساعة، فقد كنا نصعد فيها الرمال ونهبط دون توقف، ساعة لا تنقضي إلا وقد أخذ منا الجهد مأخذه، رحلة أسبوعية نقطعها في وسط الصحراء، واستمر الحال هكذا حتى تم تعبيد الشارع ورصفه في النصف الثاني من ذلك العام”.

هجرة الشيّط

واحدة من مئات الهِجر السعودية الواقعة ضمن مشروع توطين البدو الرحل الذي أشرف عليه الملك عبدالعزيز رحمه الله بنفسه، تقع جنوب غرب طريق الشمال (خط التابلاين)، وغرب محافظة قرية العليا بمسافة 40 كيلومتراً، وهي البوابة الشمالية الشرقية لمنطقة الصمّان.

يبعد مركز الشيّط عن مدينة الدمام 350 كيلومتراً.

أما عن تاريخها فقد شهد المكان موقعة في بداية تأسيس الدولة السعودية الأولى، عرفت باسم وقعة الشيّط عام 1207هـ / 1789م.

واليوم مركز الشيّط من المراكز الرائدة وتجاوز عدد السكان فيها 3 آلاف نسمة، ورغم أنها تُعتبر من الهجر الحديثة إلا أنها سرعان ما تطورت وأصبحت في مصاف الهجر الكبيرة.

مصافحة الشيّط الأولى

أكثر من 30 سنة لم تستطع محو تلك التفاصيل حتى أصغرها من ذاكرة المقرقش، تسرد فاطمة تفاصيل حكايتها، وكأنها على مسافة الأمس القريب، فتتسابق الذكرى في حروفها “في الأسبوع الأول ذهبت مع زوجي إلى النعيرية وسكنا في بيت صغير تعيش فيه معلمة من القطيف، بسبب اقتراب موعد ولادتها، وكان أشبه بالأسبوع التمهيدي، وكأنها رحلة استطلاع: أين سأسكن؟ ومع من؟ موقع المدرسة التي سأعمل فيها؟

كما كانت هناك محاولات من زوجي من أجل نقلي إلى مدرسة في القرية العليا بدل الهجرة، لكن محاولاته فشلت بجملة “ما فيه مجال”، وبهذا قضينا الأسبوع بين مكتب التعليم في القرية العليا وبين النعيرية”.

“وفي الأسبوع التالي ذهبت برفقة والدي وزوجي إلى المكتب في القرية العليا، وما كدنا نصل حتى تعطلت السيارة، وهناك أرشدونا إلى معلمة من الجنسية المصرية تعمل في نفس المدرسة التي توظفت فيها، يوصلها زوجها مساء كل جمعة إلى الشيّط، بحثنا عنها لكنها كانت قد ذهبت مع زوجها إلى إحدى القرى القريبة، وهنا تورطنا؛ فبوجودي لم يكن بإمكان زوجي الذهاب إلى الورشة لإصلاح سيارته، والمعلمة غير موجودة، وبينما نحن حائرون اقترح شخص من جيران المعلمة أن يستضيفوني عندهم حتى تصطلح السيارة، وبالفعل بقيت في بيتهم من 10 صباحاً حتى الرابعة عصراً، كان الوقت يمضي بطيئاً جداً، بسبب الإحراج الذي أشعر به، لكني لم أر بداً من ذلك.

وقبل المغرب عادت المعلمة المصرية وذهبت برفقتهم إلى الشيّط، وسكنت معها في غرفتها لمدة أسبوع حتى أتمكن من استئجار شقة”.

كرم البادية

“عدت في نهاية الأسبوع إلى القطيف، ولأن بيتي لم يكن فيه هاتف، بل إن بلدتي التي أسكن فيها (حلة محيش) لم تدخلها خدمة الاتصالات بعد، فقد كنت أضع رقم هاتف أهلي في تعاملاتي، وهناك أخبروني بأن امرأة اتصلت بي وسألت عني، أعدت الاتصال بالرقم الذي تركته، وعرفتني بنفسها ابتسام مخيزيم من الدمام، معلمة للتو تم تعيينها في نفس الهجرة، أخذت اسمي واسم معلمة أخرى فاطمة الدوسري من مكتب التعليم وتواصلت معنا”.

تكمل المقرقش “اتفقنا أن تذهب كل منا بمفردها ونلتقي عند الهجرة، وعندما وصلنا كان الناس متعاونين جداً، فاستقبلونا بحفاوة وإكرام، واستأجروا لنا شقة مناسبة، قريبة من المدرسة التي نعمل فيها، كما أنها قريبة جداً من المركز الصحي، والبقالة اليتيمة فيها”.

الأم أم خالد

انتقلنا للعيش في الشقة وكانت معنا والدة فاطمة الدوسري أم خالد، تلك المرأة الرائعة، بقيت معنا “سمستر” كامل، وكانت تعاملنا كبناتها، تهوّن علينا صعوبة الأيام، وتمسح بيديها آلامنا، مواقف كثيرة لتلك المرأة لا يمكن أن تمحوها السنوات وإن طالت.

أتذكر أنني ذهبت بحقيبة ملابسي فقط، وفي مكان كالشيّط لا شيء فيه حرفياً يعتبر ذلك ورطة حقيقية، إلا أن أم خالد رحمها الله، كانت مستعدة، فحملت معها “مقاضي” البيت كاملة، وبابتسامة تملأ روحها قبل وجهها، قالت لا باس الخير موجود، وفي موقف آخر، أبان معدنها الأصيل، لا أنساه ما حييت، في البداية تركت أولادي مع جدتهم، وما لبث أن مرض ولدي الكبير ولم أستطع تركه، فأخذته وأخاه معي برفقة العاملة المنزلية إلى الشيّط، وهناك كانت أم خالد تتقاسم معي رعاية الصغير والعناية به، ليس هذا فحسب بل إن فاطمة الدوسري وابنتها ابتسام أيضا أحضرتا أولادهما، فكنا نترك كل أطفالنا في عهدتها ولم تتأفف يوماً”.

الناس في الشيّط

كان أغلب السكان هناك من العائلات التي تحمل الجنسيتين السعودية والكويتية، ورغم عددهم القليل إلا أنهم كانوا ينتمون لقبائل كبيرة ومعروفة، وبسبب هذا النسيج المترابط بين الدولتين، وقرب المسافة؛ كانت العوائل التي تسكن الشيّط تمون بيوتها من الكويت.

توضح المقرقش “في رمال الصحراء البديعة كانت البيوت تتخذ شكل المجموعات، حيث تجد بيتين أو ثلاثة متقاربين، بينما يفصلهم عن البيوت الأخرى مسافة كبيرة وفي كل الاتجاهات، فالبيوت المتقاربة عادة ما تكون لأفراد من عائلة واحدة، أما البيوت المنفردة فكأنها تعيش وحدها في المكان، إذ لا يجاورها أحد”، وتضيف “أما عن الخدمات الموجودة فكانت بقالة وحيدة وشبه خالية، لكنها على كل حال موجودة، (اسمه ولا عدمه)، ومركز صحي يغلق أبوابه عصراً وقبل غروب الشمس”.

وعن الناس وطباعهم تقول “كان الناس ودودين جداً، كما أن الكرم صفة سائدة في أهالي الهجرة، ورغم أننا نادراً ما كنا نتجول في الهجرة أو نخرج من البيت، إلا أنهم كانوا يرسلون لنا من أطباقهم وخاصة عندما حلّ شهرُ رمضان”

مدرسة البنات

بحسب المقرقش فقد كانت مدرسة الشيّط عبارة عن جزئين، الجزء الأساسي غرف ممسوحة الجدران، وأرضية مرصوفة بالبلاط، أما الجزء الثاني فملحق أضيف للمدرسة ليستوعب زيادة الطالبات، حيث انتقلت الإدارة للجزء الثاني، بالإضافة إلى افتتاح 3 فصول في الملحق للمدرسة المتوسطة”.

تضيف المقرقش “كانت أعداد الطالبات في المدرسة الابتدائية أكثر من المتوسطة، وذلك لأن الطالبات لم تكنّ من هجرة الشيّط وحدها بل من الهجر القريبة منها، وبلغ عددهن في الفصول الابتدائية 10 إلى 13 طالبة، وفي المتوسطة من 5 إلى 7 طالبات فقط، كنت حينها أدرّس فصول المتوسط بينما ابتسام وفاطمة تدرسان الابتدائية، كما التحقت بنا معلمة من العوامية فاطمة الفرج، وكانت مديرة المدرسة، فلسطينية الجنسية،  متعاونة معنا جداً، بل كانت كالرحمة المهداة لنا من السماء، اسم على مسمى، ففي كل أربعاء تُخفّض لنا عدد الحصص إلى 3 حصص فقط ثم تسمح لنا بالإنصراف”.

مخاض كاذب

في هجرة بعيدة عن أسباب المدنية لن يكون الأمر سهلا إن ألمّ بجسدك ألمٌ مفاجئ، فكيف إن كان ذلك الألم طلق ولادة؟!!

تصف المقرقش ساعات خارج التوقيت، عاشتها مع صديقتيها في معالجة طلق ولادة، تقول “كانت ابتسام في شهرها التاسع، وذات مساء فاجأتها آلام الطلق، نوبات متلاحقة من الألم، ولأنها أنجبت طفلها الأول بعملية قيصرية أحست وهي تتلوى من الألم أن مكان العملية الأولى قد انفتح أو يكاد، أخذت تصرخ من الألم والخوف، وانتقل خوفها إلينا، لا نعرف ماذا عسانا أن نعمل، فخرجتُ مع فاطمة الدوسري نركض فوق الرمال، لا أحد في الخارج سوانا، السكون يخيم على الهجرة وأهلها، ركضنا سريعاً باتجاه المركز الصحي.

لكنا وجدنا أبوابه موصدة ولا أحد هناك، كانت الساعة حينها قد تجاوزت 9 مساءً، انطلقنا على غير هدى إلى أي باب نصله، علّنا نجد من يستطيع المساعدة، طرقنا أبواباً متعددة نسأل عن الطبيبة دون أن نصل إليها، بعد ذلك وصلنا إلى بيت وأخبرنا أصحابه بأن الطبيبة ذهبت إلى القرية العليا، ودلونا على البيت الذي تسكنه ممرضة المركز، وبين الخوف والقلق على مصير ابتسام، وخضم البحث عمن يستطيع المساعدة، توقفت رجلا فاطمة عن الحركة، ولم تتمكن من تحريك ساقيها، لم تكن خائفة بل مرعوبة، لذا اضطررت أن أجرها غصباً، حتى وصلنا إلى الممرضة وعدنا إلى البيت”.

تكمل المقرقش “كانت ابتسام مازالت تتألم وتصرخ، فكشفت عليها الممرضة، وطمأنتها إلى أن العملية بحال جيدة ولا يوجد ما يدعو للقلق، أما الولادة فما زال الوقت مبكراً عليها، وما هذه الآلام سوى (ريح استقبال)، تأتي وتروح.

وبصدق كانت تلك الليلة من أطول الليالي التي عشناها في الهجرة، وفي الصباح اصطحبناها معنا إلى المدرسة ومن هناك ضربت على (بيجر) زوجها، وهذه هي الوسيلة الوحيدة المتاحة من الهجرة، فجاء إليها وعاد بها إلى الدمام”.

ماء غير صالح

عندما سكنا الشقة أخبرونا بأن الماء غير صالح للاستخدام الآدمي، فلا يمكننا الشرب منه ولا حتى الاستحمام، وهذه المشكلة كانت من أكبر الصعوبات والتحديات التي واجهتنا، ولتجاوزها كان علينا أن نتقشف في استخدامه ما استطعنا، ففي بداية كل أسبوع يملأ لنا السائق 12 (مطّارة) كبيرة، نستخدمها للشرب والطبخ، وتحميم الأطفال باقتصاد كبير، أما نحن فتمضي علينا 4 أيام دون أن نستحم، وما إن نصل إلى بيوتنا في اليوم الخامس (الأربعاء) حتى نتحول إلى (بطات ماي)”.

من الشيّط إلى سنابس

طوال تلك السنة لم ييأس زوج فاطمة المقرقش من إمكانية نقل زوجته، فكان بين حين وآخر يراجع مكتب التعليم بالدمام.

تقول “كان زوجي يراجع المكتب كعادته وذات صدفة علم أن أخ رئيس مركز الشيّط يريد أن ينقل زوجته، من الرفيعة إلى الشيّط، وهنا تمسك زوجي بهذا السبيل وحاول معهم أن تكون هي بديلتي في الشيّط، وبالفعل وافقوا على ذلك، وتم نقلي في نهاية تلك السنة الدراسية، فكنت أول معلمة تنقل من هناك.

وفي السنة التالية تم توجيهي إلى مدرسة في بلدة سنابس”، تضيف “كانت فرحتي كبيرة بالنقل حقاً، لكني لا أستطيع أن أنكر أنه عزّ علي جداّ فراق صديقاتي، لقد عشت سنة من أجمل السنوات وأقربها إلى قلبي رغم كل الصعوبات، فرفيقات الشيّط لم يكنّ زميلات عمل، ولا صديقات فقط بل أخوات حبيبات”.

تنويه: مصدر الصور مقطع فيديو من قناة “……” في يوتيوب.

https://www.youtube.com/@meshalabdulla/videos

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×