عبدالخالق] ثقل علمي وأدبي منذ بواكير التجربة
حسين منصور الشيخ
من غرائب المصادفات وعجائبها أنّني كنت ظهر اليوم (الثلاثاء 16 يناير) أشاهد إحدى ومضات (مكتبة تكوين) الكويتية على حسابها في إحدى قنوات التواصل، حيث خُصِّصت الومضة للحديث عن أحد أعضاء فريق المكتبة من الجنسية المصرية، وهو الأستاذ وليد رشوان، الذي توفي قريبًا، حيث عُنْوِنَت الومضة بما كتبه الفقيد كتدوينة على صفحة حسابه، وهي: «اللِّين باللِّين والودّ بالودّ، والبادي باللطف تهواه الروح».
وقد قطع المشاهدة اتصال من الصديق الأستاذ نزار آل عبد الجبار، الذي ما إن رأيت اسمه ظاهرًا، حتّى ظننته متصلًا مذكِّرًا بلقائنا الليلة الأربعاء، لإتمام مهام إقامة الحفل التكريمي للمؤرّخ والأديب الأستاذ عبد الخالق الجنبي، وإذا به يفاجئني بخبر رحيله المؤلم. وإذا بي أحوقل وأسترجع، وأترحّم على روحه الطيبة والخيّرة، ويواسي كلٌّ منّا الآخر لفقد ورحيل شخصية باحثة ومعطاءة كأبي طاهر، أفنى حياته مساهمًا في حفظ تراث هذه البلاد وتدوين تاريخها ومنقّبًا في صفحات الكتب والوثائق والمخطوطات وجائلًا البراري والقفار من أجل تحقيق تاريخي أو جغرافيّ أو تتبّع أثر ذي صلة بتاريخ هذه المنطقة وتراثها.
لقد كان الأستاذ الجنبي هيِّنا ليّنًا يقابل اللينّ باللين، والودّ بودّ أكثر، ويبدؤك بكلّ لطف وترحاب وتهلّل باللقاء، فلا تملّ مجالسته، ولا تخرج من عنده إلّا وقد أضاف إليك معلومة، أو ألفتك إلى مفارقة تاريخية معيّنة أو أرشدك إلى مصدر مهمّ في بابه. ولذلك لم أجد خيرًا ممّا كتبه المرحوم وليد – الذي شاهدت ومضته توًّا – تعبيرًا صادقًا عن روح الجنبي الطيبة وإنسانيته المعطاءة.
الجنبي الشاعر
كانت بداية الصلة بالأستاذ الجنبي قد انطلقت من ارتباطي مبكّرًا بمجموعة من أدباء بلدتي القديح وشعرائها، حيث شكّلوا في حينها: «ملتقى القديح الأدبي»، الذي تنوّعت جلساته بين التأسيس الأدبي، والتعريف ببعض الكتب والمؤلّفين، والحديث عن أهم شعراء العربية، كالمتنبي وأبي تمام وغيرهما، ومعها التعريف بأدباء المنطقة وشعرائها، وبخاصّة شعراء القطيف، ومنها: شعراء القديح. وقد أفاد الملتقى حينها إلى حدّ جيّد من تجربة سابقة عليه، وهي تجربة: «ملتقى الغدير الأدبي» الذي كان بعض شعراء البلدة من أعضائه، كما هي الحال مع الأستاذ عبد الخالق والأستاذ حبيب محمود والأستاذ سعيد المقيلي لاحقًا.
وكان أفدتُ من تلك الجلسات كثيرًا، إذ عرفتُ من خلالها مجموعة من أدباء المنطقة، ومن أبرزهم الشاعر عبد الرسول الجشي (أبو قطيف)، حيث وزّعت قصائده في مجموعة من الجلسات، ولإعجابي الشديد بها، كنت حينها أحفظ مجموعة منها. ومنهم الشاعر الأستاذ عبد الخالق الجنبي، الذي وُزِّعت علينا مجموعة من قصائده، وتحدث عنها بعض أعضاء الملتقى في إحدى الجلسات. ولم يكن من الصعب في تلكم المرحلة أن ألتقي بصاحب هذه القصائد، إذ كان إلقاء القصائد الأدبية في المناسبات الاجتماعية والدينية أمرًا شائعًا، ومن المتوقّع الالتقاء بالعديد من الشعراء في أمسيات إحياء تلكم المناسبات، إذ كان شاعرنا من بين مشاركيها.
وقد كانت موضوعات هذه المناسبات حاضرةً في بعض القصائد، وإلى جانبها تجد اهتمامه المبكّر بتراث هذه المنطقة وطبيعتها الزراعية والبحرية، إذ يقول في إحدى قصائده التي عنوانها بـ: «النخيل يموت واقفًا»:
إن هذا النخيل يؤرق فكري
كلما اهتزّ هزّ فيّ ضميرًا
أبدي الحياة حتّى وإن مـ
ـات سيبقى هياكلًا وجذورا
فهو لحن الخلود إن زعزعته
الريحُ لا ينحني ذليلًا حقيرا
ثابتًا لم يزل وإن أجهدته
عاديات السموم لم يخشَ ضيرا
غلبة الجانب التاريخي عند الأستاذ الجنبي
وهذه الصلة الأدبية عند الأستاذ الجنبي رافقها اهتمام مبكر بالجانب التاريخي، وبخاصّة ما يرتبط بالتنقيب وسبر الكتب والمصادر التراثية، إذ أتذكّر أن أول معرفتي به مؤرخًّا كان من خلال بحث نشره بداية تسعينيات القرن الماضي يتناول فيه صحّة نسبة أحد القبور في بلدة الآجام إلى نبي الله اليسع (ع)، إذ ناقش في بحثه ذاك ما ذكره الشيخ فرج العمران حول هذا القبر، وليخرج بنتيجة مفادها أنه قبر أحد الصالحين، واسمه: رئاب. وكانت مناقشة شخصية علمية مثل الشيخ فرج العمران (ره)، والتشكيك في معتقد محلّي حول نسبة القبر من قبل الأستاذ الجنبي الذي كان في عقده الثالث حينها يعد أمرًا ملفتًا إلى ذهنية بحثية ونقدية واعدة.
كما أنّ تحقيقه لديوان ابن المقرّب العيوني بذل فيه – مع زملائه في التحقيق: الشيخ عبد الغني العرفات والأستاذ علي البيك – جهدًا وتتبعًا غير عاديين، ظهر معه الديوان بصورة لائقة تعد النشرة الأفضل للديوان، وبخاصّة أنه صدر في طبعته الأولى بمطابقة مع أكثر من 20 مخطوطة ومجموع شعري. ولولا خلفيته التاريخية، ومعه زميلاه، وبخاصّة ما يرتبط بالمنطقة، لما خرج الديوان بهذه الصورة.
ويضاف إلى جهد تحقيق الديوان ما كتبه حول تاريخ المنطقة في مجموعة من الإصدارات، توالت وفق الترتيب التالي:
هجر وقصباتها الثلاث المُشَقَّرُ والصَّفَا والشَّبْعَاْنُ ونهرُها مُحَلِّم، 1425ﻫ : 2005.
جنايات مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين على ديوان ابن المقرَّب، 1426ﻫ : 2006م.
قبر الآجام، 1430ﻫ : 2009م.
جرّه مدينة التجارة العالمية القديمة، 1430ﻫ : 2009م.
جواثى تاريخ الصمود، 1433ﻫ : 2012م.
الديوان المصوَّر لشعر علي بن المقرَّب، 1433ﻫ ـ 2012.
الحسين بن ثابت القطيفي وقصيدته في قبائل وبطون قبيلة عبد القيس، 1435ﻫ : 2014م.
تحقيق المنظومة الهجرية للملا عطية الجمري البحراني، ، 1435ﻫ : 2014م.
بحوث تاريخية وجغرافية ذات علاقة بشرق الجزيرة العربية، 1436ﻫ : 2015م.
المحفوظ من تاريخ الشريف العابد أخي محسن، 1440ﻫ : 2019م.
لقد جمعتنا مع الفقيد مجموعة من اللقاءات الأخوية والجماعية، مثّل فيها الأستاذ الجنبي دائمًا الباحث الجادّ والمتتبّع الجلِد، والمنقّب الخبير، ففي جميعها لا تخرج من لقائه إلا بمجموعة من الفوائد التاريخية أو الثقافية أو الأدبية لا تجدها بين صفحات الكتب والأبحاث بمثل هذا الوضوح والاستخلاص.
الجنبي وكأنّه يتحدّث عن رحيله:
يقول الأستاذ في إحدى قصائده المبكّرة وكأنّه يتنبّأ برحيله:
«والآن، وبعد مضيّ العمر
وبعد رحيل أحبّائي
أدركتُ بأنّ هوى نفسي فيروس يفتك في جسدي
ويكشّر لي عن أسنانه
فيروس يفتك في جسدي، أخطر من فيروس السرطان
يسري في جسدي كالبركان
يفجّر كل خلايا جسمي
يحاصر جيش دمي الأبيض، يستنزفني
يمتصّ من القلب الأيمان
هل ذاك دخان؟…»
لقد فقدنا برحيله المؤلم كل هذا الثقل العلمي والأدبي والتتبّع الرائد لتراث هذه المنطقة، تاريخها وثقافتها وأدبيها وجغرافيتها وطبائع مجتمعها. فرحمه الله بواسع رحمته وأجزل له الثواب لقاء ما قدم ودوّن وحفِظَ وأعطى وبذل.
وإنَّا لله وإنا إليه راجعون.