سيرة كرة مطاطية.. ومرويّة مبتورة وحافية
حسن دعبل
من المعروف أن المجتمعات البحرية لا تقرأ ولا تكتب!
حتى أنها لا تهتم بتعليم أبنائها غير مهنة الغوص والصيد. إذاً فهي مجتمعات شفهية بامتياز، لا تُدوّن ولا تَخطّ في “البروات” والأوراق ما يسرد معيشتها، وحيواتها.
لذا عاشت هذه المجتمعات على مروياتٍ تُسرد، وتُروى على مسمع الأجيال في فتراتٍ وأوقاتٍ مُتباعدة. فالمرويات المنقولة، إما ناقصة أو مبتورة، حسب الأهواء والنسيان.
فلا غرابة أن تظلّ سردية أو مروية النادي، وتاريخ تأسيسه، رواية ناقصة وزائدة، أو مبتورة في شغفها، وربما منحولة أو مُصحّفة في بعض أهواء ناقليها.
أما ما تناثر من ذكرياتٍ وحنين لماضٍ بعيد، فلم يذهب بعيداً عن أبواب “المَيالس” بجلاّسها، والطرقات الضيقة تلك التي ركضت فيه، وبه أرجل حافية لكرة مطاطية حملتها الأيدي فرحة من “كامب الطليان” أو عمال شركة النفط…!
ذاك هو أول الركض، والتأسيس لمجموعة متجاورة متأنسة، ومتآنسة بشجاعة الفتيان الأوائل.
والفتيان الأوائل لم يتجاوز عددهم أصابع الكفين، عندما ركضوا حفاةً ضاحكين. إذاً فالمروية المبتورة، تُصيغ مشهدها المنقول بين الشفاه قبل أن تغمض العين، وتتناسى تلك السردية المروية بخفوت. فمن رمى تلك الكرة في طرقات القرية الغافية على سِيفٍ يتهادى بِدحّ “الموي”، كما ينطقها اللّسان بعد فِطامه. ولم تتشكل في مُخيّلته البسيطة أنه رمى بيده حصاة التأسيس لبيتٍ تعددت به الدُّور والأسماء.
لا أعرف أيّ سرديّة اجتماعية، كُتبتْ وفصّلت في هذا السّفر الرياضي، حسب مادحيه.
ولا أعرف أيّ زمن مُتسلسل ومُترابط في مجلداته الثلاثة، إذا لم تزد بعدها.
الإصدار الثالث، لم يختلف عن سابقه من تكاثر الصور وتكرار العبارات، والمدائح المجانية، وكأنّ جامع الصور، ومُسطّر العبارات أرادها محكية بسطحيتها العابرة.
الكتاب محشو بصورٍ غير مُحقبة ولا مؤرشفة بعناية، ولا حتى مكتوبة بسردية زمنية، غير إشارات عابرة لمجايلة أجيالٍ مروا من هذا الباب!
والكتاب بغلافه المُقوى، مطبوع بورقٍ وطباعة رديئة، غير مُنقحة. حتى الصور الزائدة بالورق والمرمية بين صفحاته، مكررة وباهتة. ربما وردت أسماء ووجوه، لكنها صامتة وغير ناطقة، لعجز من أعدها عن أرشفتها بعنايةٍ وكتابة، ولو بشطحةٍ مُتخيّلة.
تُسطّر العبارات في الكتب كي تبقى، لتُقرأ؛ لا لتُحكى!
الإصدار ولد قبل أخيه الثاني. أي أنّ الجزء الثالث من الكتاب الضخم كما يحلو لأبيه الغير عضوي، ومتبنيه، هذا إذا لم يكن هناك أكثر من أبٍ، نفخوا فيه من أفكار كتاباتهم وصورهم؛ ربما هناك سيرة متعسرة للأفكار، أو سردية رياضية لم تُروَ..!!
الذكرى الخمسون للتأسيس، أي نصف قرن من الزمن. ليست بقليلة، كفيلة بعصفٍ لأجيالٍ وحقب؛ ومُتغيرات تطال المكان بأهله. نصف قرن تُقلّد بيوبيلٍ ذهبي في الذكرى، وتزدان بها رِقاب تتعالق بذكراها، وذاكرتها إن استعادت بصدقٍ وعرفان. ما بين التأسيس وأرشفة الصور رياح كثيرة “هبّت”، باعدت وقاربت؛ لم يبق من المكان وأهله غير ذكريات باهته، ولسان تغيب مفرداته بخفوتٍ ونسيان. المكان الحاضن غاب أيضاً، وغابت سحريته وألفته، وكرمه المعتاد، المجبول والمصبوغ بلباس أهله، وما يحسب لهم ومن عاشرهم، وكسب مهنتهم الأولى!
هناك أسماء نُسيتْ، خذلتهم، وتناستهم ذاكرة الرواة، والساردين، وحتى مدققي ومراجعي هذه الثلاثية…!
الكتاب زوائده الورقية ترمي به في سلة النسيان وأوديته السيليكونية.