حجّي عَون.. آخر ظُرفاء “باب الصرفان” واجه لفحات "السلوق" وضحك من "سَنيةْ الشيّاب" وأمضى آخر حياته في "الحميرة"
القطيف: صُبرة
حتى وهو طاعن في التسعين؛ كان يحترف “النكتة” التي تُضحك جلساءه بعمق. حتى وهو “يتحلطم” على تغيُّر الزمان؛ كان يُوجد في كلامه ما يمنح “الحلطمة” نكهة من خفة ظلّه وبشاشة روحه. وإلى ما قبل سنواتٍ قليلةٍ من تخلّيه عن نخله الواقع في طريق الخويلدية؛ كان “حجي عون”؛ يتربّع على “عرش بلقيس” عصر كلّ يوم، ويحف به شبّان يعرفهم ويعرفونه، ولا يُغادرونه إلا وهو مُغادر إلى منزله بعد صلاة المغرب.
ونهار أمس الأحد، ودّع عون محمد العبدرب النبي عمراً امتدّ 95 سنة، ورحلت معه ذاكرة فلاح عرفته قرية “الدبيبية” وسَيحتها الزراعية، في مواسم “الترويس” و “التنبيت” و “التحدير” و “الخَراف” والصرام.. ومعها مواسم “السلوق”.
روح شابة
قبل أن تُنهك السنوات جسده الناحل؛ كان يحمل روحاً شابّة، مرحة، ذكية في ابتكار “النكتة”، وتوقيت إطلاقها. كما يحمل ذاكرة حادة، محشودة بالكثير، وبإمكانه وصف الكثير، وسرد الكثير. بدأ التدخين طفلاً. نشأ في أجواء مليئة بالدخان أصلاً. دخان طبخ “السَّلوق”، ودخان تبخير “القروف”.
السَّلوق هو بسر رطب “الخنيزي”. وكانت كمياتٌ هائلة منه تُطبخ في قدور كبيرة، ثم تُجفّف، ثم تُعبأ في أكياس، كلّ منها يستوعب 4 أمنان قطيفية (64 كيلوجرام)، ليتمّ تصديرها إلى الهند. كان “السلوق” سلعة استراتيجية في القطيف، قوامها رطب “الخنيزي”.
أما “القروف” فهي أغلفة العذوق وقت تأبير النخل “التنبيت، التلقيح”. تؤخذ الأغلفة وتُغلى في الماء، ثم يتم تبخير الماء، ويُعبّأُ السائل. تلك كانت صنعة مشهورة في القطيف، لإعداد “سائل لقاح النخيل”، وهو شرابٌ يقوم مقام الشاي، وله نكهة طيبة. وقد انقرضت هذه الصنعة، وباتت محصورة في البحرين في الوقت الراهن.
من باب الصَّرفان
في هذه الأجواء نشأ حجّي عون بن حجّي محمد عبدالنبي. وبدأ تدخين “النارجيلة” في سنًّ مبكّر جداً، أمام نظر والديه. في تلك السنوات لم يكن يُنظر إلى التدخين على أنه شيءٌ ضارٌّ مطلقاً. وفي نخيل “باب الصَّرَفان” عاش 46 سنة فلاحاً محترفاً. مكان النخل في سَيحة الدبيبية، وتحديداً في المكان الذي يقع فيه مستشفى الزهراء الآن. وقبل سنوات قليلة كان قائماً على نخل اسمه “الحميرة” في السَّيحة نفسها، بين مدينة القطيف وبلدة الخويلدية. وفي النخل عريش مفتوحٌ، مجهّز بأرائك قديمة، وأرضية مفروشة. إنه مكان ضيافة بدائيٌّ، لكن الناس يقصدون “أبو حسن” ليستأنسوا بحديثه، ويُحيطونه بمودة عفوية.
سَنْوَةْ شِيّابْ
غالباً ما كان يظهر “حجي عون” في مزاجٍ عالٍ جداً. وقد عُرف بتدخين “النارجيلة”، لأنه يحتاج إلى نوعٍ من “السَّنوَهْ”. ويقصد بذلك تلك “الدّوخة” الخفيفة التي يحصل عليها المدخن بعد التوقف طويلاً عن التدخين، خاصة بعد إفطار شهر رمضان. هذه “الدوخة” كانت محطّ جدل فقهي طويل في القرون الأخيرة. بعض الفقهاء عاملها معاملة “السُّكر” فحرّم التدخين. وبعضهم ردّ هذا “القياس”؛ فلم يجد مُبرراً فقهياً لتحريم التدخين.
وحين تحدّث هو عن هذه الحالة، قال إنه شاهد رجالاً يقعون “سَنيَانين”، حدّ الإغماء، بعد الإفطار. وقد تطول إغماءتهم لنصف ساعة. كانوا يصومون نهاراتٍ طويلة جداً، ويعملون وهم صائمون، وما إن يؤذن المغرب حتى تكون “النارجيلة” أول ما يفعلونه. ثم يُغمى عليهم لشدة “الدوخة”..!
كتاب نخيل
كان الحديث مع “حجّي عون”، يُشبه قراءة واحدٍ من كُتب النخيل التي تسير على قدمين في القطيف. ظهرت في الرجل ملامح الطفل الذي بدأ حياته فلّاحاً ومضت حياته في الفلاحة. ظهرت على لسانه أسماء أصناف النخيل، وأوصافها، وألوانها، وكان قادراً على أن يُملي ما يعرفه عمّا بقي منها وما انقرض، دون أن يتحفظ في أسماء بعضها..
الصور من أرشيف صُبرة، من تصوير الفوتغرافي محمد الخراري، في مايو 2018.