عن رحلة 28 شهراً في “القافلة”
حبيب محمود
خطاب بتوقيع رئيس شركة أرامكو شخصيًا، عبدالله جمعة، يسأل فيه عن سبب مُروق خطأ نحوي في شرح صورة منشورة في المجلة..!
وعلّة السؤال أن الشركة لا تقبل بمروق الأخطاء، حتى الصغير منها. ومجلة “القافلة” تأسّست على احترام اللغة العربية، احترامًا لا أخذ ولا ردّ فيه. قد تكون مجرد مجلة لا تربح منها الشركة هللة واحدة، لكنها تعاملها كما لو كانت بئر نفط، أو معمل تكرير.. المعايير هي المعايير..!
مرّ على ذلك 20 عاماً؛ وما زلتُ أعرف التطلُّب الشديد في إعلام أرامكو تحديدًا. وحتى اللحظة ما زلتُ أراه أصعب أنواع الإعلام التي تعاملتُ معها على الإطلاق. مع ذلك؛ أرى، أيضًا، أن العاملين فيه يُبصَّرون به، في كلّ تفصيلاته، عبر قواعد مؤسَّسة سلفًا، ليعرف كلّ فردٍ في أي فريق ما له وما عليه..!
إعلام شركات نعم؛ لكنّ “القافلة” لا تصدر وكأنها مجلة شركة، وبالتأكيد؛ ليست مجلة نفط، ومن المؤكد المُشدّد أن أرامكو لا تريد من “القافلة” ان تتولّى الدعاية لها أو ترويج إنجازاتها. وعبدالله جمعة، الآتي من الأدب والثقافة، يعرف “القافلة” ويحبّها. وحين أكملت عامها الخمسين؛ كان التساؤل يتكرر حول جدوى استمرارها، وجدوى مشاريع مشابهة، مثل تلفزيون أرامكو.
إلا أن الرأي استقرّ على أن تستمرّ المجلة في الصدور، ولكن ليس على حالها القديم، بل على حال جديد كلّيًا، من الألف إلى الياء.
الاستراتيجية التي صُنعت لها في 2003؛ نقلتها من مكاتب قسم النشر العربي في الشركة إلى عهدة شركة إنتاج، لتنقلها ـ بدورها ـ من أسلوب “التجميع” المعتمد على البريد والاستكتاب المحدود؛ إلى أسلوب “الصناعة” وابتكار الأفكار، وتوليف الموضوعات، والعناية الشديدة بالجانب البصري الذي جنّد له كميل حوّا فريقاً من “صناديد” التصميم والإخراج.
تكاتف محمد العصيمي وفؤاد الذرمان ومن ورائهما فريق من أرامكو؛ من أجل أن تنطلق المجلة من جديد وفق الاستراتيجية الجديدة. تولّى الذرمان الجانب الإداري المساند، وتولى العصيمي رئاسة التحرير، وأشرف على أداء المحترَف السعودي بصرامة أرامكو، وتفكير الصحافي المحترف معاً.
في هذه المرحلة؛ سنحت لي فرصة الانضمام إلى فريق “المحترف السعودي”، لأحظى بتجربة معايشة تأسيس القالب الجديد الذي ما زال مستمرًّا حتى يومنا هذا.
إنها تجربة 28 شهراً لا أكثر. جاء العرض من رئيس التحرير. فخرجت من “اليوم” إلى مكتب “المحترَف” في الخبر، وباشرتُ العمل “محرّراً” من اليوم الأول، في مجلةٍ تصدر كلّ شهرين، ويُحضّر لكلّ عدد منها بسلسلة من الاجتماعات والنقاشات والمكاتبات، وتُراجع كلّ جملة، بل كل فاصلة ونقطة، ويُدقٌّق حتى في حجم الخط، ونوعية الحرف، واختيار اللون، وتعصف النقاشات تلو النقاشات من أجل اتخاذ قرار واحد بين عشرات..!
غلاف العدد الأول الذي صدر في مارس 2003؛ أعدّ له كميل حوا 12 تصميماً، من أجل مناقشتها مع الفريق واختيار واحد منها فقط..!
تخيّلوا مصير التصاميم الأحد عشر الأخرى. ونحن لا نتحدث عن “شغل فوتوشوب”، بل عن رسم يدوي. كان الرجل يكرّر أن هاجس “المحترَف”؛ هو أن يوجد لكل حلّ مشكلة..!
وعلى هذا يصدر كل عدد، ليكون تحفة صحافية رصينة، ودقيقة، وجميلة، وتمثّل الرسالة الثقافية المنوعة التي تريدها أرامكو.
التحفة المبوّبة، المتشدّدة في كلّ تفصيل صغير، بأقسامها، وعناوينها، وبساطة موضوعاتها العميقة جداً، الشعبية للغاية، ولكنّ بلمسة مثقفة وأنيقة جداً أيضاً.
بالتأكيد؛ كانت التجربة غنية بالنسبة لي، وما أثّر فيّ أكثر، حتى بعد مغادرتي فريق “المُحترَف” عائداً إلى الصحافة اليومية في “الوطن” عام 2005؛ هو ذلك المعلّم الحرّيف المُدهش بفرادة أفكاره، وبساطة روحه، وعنفوان كلّ كلمة يختارها في صياغته.. عبود عطية.