أبو موسى.. حياة بسيطة.. ورحيل صادم
حبيب محمود
ليس علَماً، ولا عالماً، ولا وجيهاً، ولا شخصية عامة، ولا من الناس الذين يعنيهم ما يعني الكثيرين. واحدٌ من آخر جيل في سائقي الأجرة، هذه مهنته الأخيرة. أما حياته؛ فهي سيرةٌ أصلها في النخيل، وتفصيلاتها تفرّقت بين أعمال حرّة كثيرة، توزّعت على عقود عمره الستة، وتخالطت مكابداتها ونجاحاتها وإخفاقاتها، مثل أي “نخلاوي” نشأ أمّيّاً في مرحلة الانتقالات السريعة..!
“أبو موسى”.. بهذا يعرفه الناس، بحيث اختفى اسم جعفر عبدالنبي بين عارفيه في القديح الذين لم يروه يوماً بغير “سكبة” الشماغ الأحمر التي تكاد تكون خاصة بالسائقين ومن هم في مثلهم. عفويٌّ حدّ اعتزال أكثر الناس، ومشغولٌ بالكدح إلى مدى اللوذ بالذات بعيداً عن مخالطة المجالس ودِكك الجلسات. صاحب “نُكتة” تُضحِك بعُمق، وتلذع بجرأة أحياناً.
بدأ حياته فلّاحاً ضمن عائلته، وحاول أن يكون خبّازاً، فسائق “ستيك” تأخذه الطرق البعيدة طويلاً، ثم جرّب حظه في استعادة حرفته الأولى، وكاد ينجح، لولا أن الزراعة التقليدية لم يعد نجاحها سهلاً. هرب إلى وظيفةٍ تناسبه مزاجه الخاص، عاد إلى الطرق الطويلة في شركة توزيع صحف. ثم تجاذبته أعمال أخرى قصيرة المدى، حتى استقرّ على مهنة سائق أجرة في سنواته الأخيرة.
أرأيتم…؟
ليس في السيرة ما يُبحَثُ عنه في قصص المشاهير والشخصيات العامة، أو أصحاب المنجزات الكبيرة. سيرةٌ تُشبهها عشرات ـ بل مئات الألوف ـ من السير. إنه واحدٌ من الناس الذي نراهم في كلّ مكان. ثم حين يصدمنا نبأ رحيل أحدهم؛ تتحوّل تلك التفصيلات التي كنّا نراها صغيرة وعابرة إلى ملامح بشرية لم نكن نراها كما يجب من قبل.
وأبو موسى، ذو الملامح الريفية جداً، واحدٌ من الذين أرادوا أن يعودوا إلى الأرض دون أن يجنوا على أحد، وحين كان على الأرض؛ تجنّب ما يستهوي الكثيرين.. كان يُكرر “كِلْ عَيْشْ ونامْ”، فنضحك من “حكمةٍ” بسيطة ونكررها ـ معه ـ كأنها من الأمثال التي يسوقها في أحاديثه القصيرة.
بدأت قصة “أبو موسى” في هذه الحياة وانتهت؛ دون أن تُؤذي أحداً، أو تأتي بأحدٍ إلى هذه الدنيا المزعجة. كانت الخسارات تؤلمه، وتُحبطه، وتشلّه أحياناً. لكنّ طبيعة الريفيِّ الجادة؛ تأبى أن تتذمّر، أو تشكو، أو تتعتّب، أو يربطها الندم في خطوة متعثرة.
رحم الله جعفر عبدالنبي، وأحسن مثواه، وربط على قلوب ثاكليه.
جميل من صبره وقوفها على حياة البسطاء تماما كوقوفها على حياة سواهم.. من ساواهم الموت لا يجب ان نفرقهم بجاه او بغنى
رحم الله الفقيد المكافح واسكنه فسيح جناته مع محمد وآله عليهم السلام