“المِسْتَسرّون” في عاشوراء.. الواقعة بين عينيْ مصدوم…! الاختصاصي النمر: يندمجون انفعالياً مع حدث تاريخي ويرون أنفسهم مسؤولين عنه
في مثل هذا اليوم.. ضربة "مِسْتَسَرّ" قتلت "ملا" على منبر العباس
القطيف: شذى المرزوق
في مثل هذا اليوم السابع من عام 1303؛ فقد خطيبٌ حسينيٌّ حياته بضربة عصا أصابه بها “مُستمع” دخل في نوبة “اندماج انفعالي”. حدث ذلك على ـ على الأرجح ـ في الحسينية المعروفة في سيهات بـ “حسينية خريدة”، بحسب ما ذكره المهتم بالتاريخ والتاريخ موسى آل رضوان، لـ “صُبرة”، وهو أيضاً أحد أحفاد الملا.
كان الملّا أحمد آل رضوان في الثمانين من العمر، حين قرأ “مصرع العباس” بالطريقة الناعية الشجية التي يتبعها الخطباء في مثل هذا اليوم من كلّ عام. وتحت تأثير الطريقة المؤثرة جداً في الجمهور؛ اندمج أحد الحضور “مستمع” في المشهد الذي كان الملا يؤدّيه على المنبر بطريقة درامية عاصفة، تتخلّلها أبيات شعر تصوّر التفاصيل.
خرج “المستمع” عن طوره، ودخل في طور انفعال، فعمد إلى علمٍ في “الحسينية” فأخذه، ثم انهال على الملا أحمد ضرباً، ليسقط الأخير أرضاً..!
مـِسْتَسَرْ..!
“المستمع مِسْتَسَرْ”..! هكذا يُوصَف ـ شعبياً ـ من يدخل في مثل هذه الحالة. وهي حالة يصفها الباحث النفسي أسعد النمر بأنها “اندماج انفعالي” يتطوّر إلى “إحساس عميق بالمسؤولية تجاه حدثٍ ما، أو شخصية ما، أو حتى موضوع معين، ومن منطلق هذه المسؤولية التي يستشعرها يعتقد المرء ـ لا شعورياً ـ بأنه معنيٌّ بها، وعليه أن يقوم بواجبه تجاه ذلك، ويترافق مع هذا الإحساس مزيد من الانفعالية ذات الصلة بغضب ممزوج بالشعور بالذنب الذي يقتضي إعادة تصحيح موقف الذات”.
تصحيح الذات
في ضوء هذا الشرح العلمي للباحث النمر؛ فإن “المستمِع المستسر”؛ وجد نفسه مسؤولاً عمّا يحدث للعباس بن علي وقت “قراءة” الملا، وأن عليه أن يعيد تصحيح موقف ذاته، بتوجيه عقاب عنيف للملّا الذي لا دور له إلا سرد القصة المأساوية التي حدثت في كربلاء سنة 61هـ، وهذا ما تمّ على يد “المستمع” عملياً..!
بحسب الحفيد آل رضوان؛ فإن الملا أصيب بجراحاتٍ عميقة في الصدر، ولأنه مقتدر نسبياً؛ فقد وجد ذووه أن يسافروا به إلى “بوشهر” في الجانب الإيراني من الخليج العربي، ليتعالج مما أصابه من “المستمع المستسر”. لكن الملا فاضت روحه في “بوشهر”، ودُفن فيها..!
حالات.. لا ظاهرة
هي حالات لا ترقى إلى مستوى الظاهرة، لكنّها معروفة في مثل هذه الأيام بالذات. حالة اندماج انفعاليّ؛ تتحوّل إلى نوبة نفسية مؤلمة. قد تظهر في حالة بكاء لا يتوقف، وقد تتطوّر إلى سلوك انفعالي غريب.
بكاء طفل، أو صراخ رضيع، أو شعلة نار قد تكون ذات تأثير بالغ جداً، وتؤجج مشاعر فتصل بالمعزّي إلى حالة من الاندماج الانفعالي، بحيث لا يعي ولا يدرك تصرفاته أثناء ذلك.
لا تقتله.. لا تقتله
الباحث المتخصص في الخطابة الحسينية لؤي آل سنبل، وقف على حالات “مستسرّين”، وهو يصفها بأنها “حالة من الحزن الشديد يخرج صاحبها من الواقع ليدخل في عالم الحدث وكأنه يعيشه، وعلى أثر ذلك يكون انفعاله النفسي أكثر من الطبيعي”.
يضيف آل سنبل “بعضهم يدخل في حالة من النحيب الشديد قبل حتى أن يبدأ الخطيب مستهل المجلس، ويبقى كذلك حتى النهاية وخروج المستمعين”. وقال إنه شهد إصابة مستسر بحالة إغماء من شدة الحزن والتأثر، فيما وصل الحال بـ “مستسر” آخر إلى خروجه عن الوعي وعن إدراك ما حوله، وقد سقطت جمرة عليه، ولكنه مع شدة البكاء لم يشعر بحرارتها”.
ويقول آل سنبل إنه شهد كذلك تأثر مقيم تركي في القطيف عندما كان يتابع مشهداً تمثيلياً لمقتل عبدالله الرضيع استُخدمت فيه دمية؛ فما كان منه إلا أن دخل ساحة التمثيل وهمّ الدمية من يد الممثل وراح يصرخ: “لاتقتله.. لاتقتله”..!
رأسه بالجدار
ومثل هذه المواقف شهدها الناشط محمود الشاخور الذي نقل شدة تأثر عدد من المستمعين بعزاء الملا أحمد آل خميس، عافاه الله، عندما كان يخطب في حسينية السيهاتي بمدينة سيهات قديماً، والمشهد ما زال ماثلاً في ذاكرته، فقد رأى رجلاً يضرب برأسه الجدار باكياً منتحباً، الأمر الذي اضطر بعض الحضور إلى سحبه ومحاولة تهدئته برش الماء على وجهه.
وأكمل “عندما كنت صغيراً كان السيد مرتضى شبر هو الخطيب في بيت جدي، وهناك كنت أشاهد حالات النحيب المستمرة التي يُغمى فيها على أصحابها فيسرع الحاضرون إلى تهوية المغمى عليه، وتهدئته، ويقال استسر فلان فأغمي عليه”.
اندماج انفعالي
التعريف العلمي لمثل هذه الحالات يشرحه الاختصاصي النمر قائلاً “تمتلىء هذه الأيام بشحنات انفعالية وعاطفية مرتفعة نسبياً استجابةً لتأثير واقعة الطف المحزنة كما تروى منبرياً”. يضيف “بعض المتأثرين بهذه الواقعة يرتفع مستوى انفعالهم النفسي، وهذه خاصية فردية ليست جماعية، يمكن أن يُطلق عليها “الإندماج الإنفعالي”.
ويضيف “خلال عنفوان الانفعال المرتبط بالاندماج، يشعر المرء برابط عاطفي قوي يشدّه نحو شخص أو قضية ما، شداً قوياً فتنتزع منه قدرته على التحكم في ذاته، لذلك نجد بعض المتلقين لأحداث الطف تتداعى في أذهانهم النائبات التي لقيها الإمام الحسين، عليه السلام، وأصحابه يوم العاشر من محرم، فيعتقد أن مسؤوليته تقتضي أن يكون جزءاً من الحدث الذي يتلقى تفاصيله من الخطيب، وبالتدريج يتشكل الاندماج على نحو انفعالي عارم منعكساً على السلوك”.
ولفت “هذا النمط من السيكولوجيا ليس ظاهرة بقدر ما هو حالة، وعلينا أن نفرق هنا بين الظاهرة والحالة فالظاهرة أوسع نطاقاً وأكثر تكراراً فيما الحالة أضيق نطاقاً وأقل تكراراً”.
القطيف: صُبرة
الاندماج الانفعالي قد يحدث وقت قراءة الخطيب، لكنّ هناك حالات اندماج أكثر اتساعاً من ذلك. خاصة في الأعمال الفنية الدرامية.
الليبية أم سالم طرد “وحشياً”
حين أدّى الممثل الليبي سالم قدارة دور “حبشي” في الفيلم الشهير “الرسالة”؛ وشاهدت أمه الفيلم؛ طردته من المنزل، بحسب ما رواه الممثل نفسه للصحافة قبل وفاته. وحشي هو قاتل الحمزة بن عبدالمطلب في معركة أحد، طاعة لسيدته عتب التي لاكت كبد الحمزة بعد استشهاده.
اندمجت والدة الممثل مع الدور الذي أدّاه ابنها؛ فرأت فيه “وحشياً” القاتل، لا “سالماً” الممثل.
أنوشي خاف من الحسين لأنه قتل ابنه
الفنان الإيراني انوش معظمي أدّى دور “حرملة” في فيلم “المختار الثقفي”. وحرملة بن كاهل هو قاتل الطفل عبدالله الرضيع في حجر والده الإمام الحسين.
وبعد انتشار الفيلم؛ واجه مشكلة استمرّت طويلاً، بداية من موقف أمه ضدّه التي دعت عليه بقولها “كسر الله يدك”..!
وبحسب ما رُوي عنه؛ فإنه حين زار الحسين بنفسه بعد الفيلم؛ شعر برهبة شديدة لأنه أدّى دور قاتل ابنه.