جمال خاشقجي.. الرجل الذي احترف المفاجآت
حبيب محمود
كان تعيينه رئيساً لتحرير “الوطن” مفاجأة، وإعفاؤه من رئاستها مفاجأة. ترأّسها مرّتين، الأولى لم تستمرّ إلا 52 يوماً. وذلك من مفاجآت الصحافة السعودية، ومفاجآت جمال خاشقجي…!
المعروف أن رؤساء تحرير الصحف يُعمّرون طويلاً، يعيشون أعماراً صحافية متتابعة. لكن كرسيّ “الوطن” قصّر أعمار رؤساء تحرير كثيرين، أُصلاءَ أو مكلّفين. والـ 52 يوماً التي صار فيها خاشقجي رئيساً للتحرير من أول علامات “قِصَر العمر” فيها.
ثم جاء تعيينه الثاني بعد عودته من الولايات المتحدة مستشاراً للسفير العائد ـ وقتها ـ الأمير تركي الفيصل. كانت المفاجأة أنّ التعيين لم تسبقه مقدمات، أو حتى تسريبات. فحدثت مفاجأتان: تعيين خاشقجي، واستقالة فورية للدكتور عثمان الصيني رئيس التحرير “المكلف” الذي عاد إلى “الوطن”، لاحقاً، بمنصب “رئيس تحرير” أصيل، وما زال في موقعه.
(2)
أثناء ترؤسه تحرير “الوطن”، الفترة الثانية؛ قرّر تغيير تبويب الصحيفة تغييراً شاملاً. وفي أسابيع ليست طويلة؛ اختفى “الماكيت” الأول؛ وجاء “ماكيت” جديد. استعان بخبرات من الـ BBC و “الحياة”؛ لتدريب العاملين وتهيئتهم، ووضْع “ستايل بوك” جديد، وإطار عمل مختلف فنّياً وتحريرياً. شمل التغيير كل شي، حتى “اللوغو”، وأساليب الصياغة. وأسّس إدارة “جودة”، يدخل عملها في كل شيء، بدءاً من “الهيكلة” وصولاً إلى “تحليل المحتوى”..!
وعلى الرغم من التمهيد المكثّف؛ كان ظهور “الوطن” بصورتها الجديدة مفاجأة. بعض قيادات الصحيفة تحفظ على سرعة “التغيير”، لكنّه أصرّ، ودعمه الأمير بندر بن خالد الفيصل بقوة. أتذكر في أحد اجتماعات قيادات مؤسسة عسير في أبها؛ قال الأمير بندر للمجتمعين ما معناه أن الصحيفة مقبلة على تطوير كبير، وأن الاستمرار معنا فقط محصور في القادرين على المشاركة في هذا الإنجاز.
ثم ظهرت الصحيفة بشكلها الذي ما زال مستمرّاً حتى الآن..!
كان كلُّ شيء يسير على ما يروم جمال خاشقجي. ثم جاء الإعفاء الثاني المفاجيء.. بل الصادم. تلقّى الخبر في يوم سفره إلى إيطالياً، لقضاء شهر عسل. وهذه مفاجأة تُزاحم مفاجأة أُخرى. وأتذكر أن الرئيس المكلف بعده، سليمان العقيلي، كتب “فيتشر” جميلاً عنوانه “العشاء الأخير مع جمال خاشقجي”..!
(3)
وقبل أن يعود من شهر عسله الإيطالي؛ عيّنه الوليد بن طلال ـ مباشرةً ـ مديراً لقناة “العرب”. إنها واحدة من كُبريات الفرص التي يمكن أن يحصل عليها رئيس تحرير مُقال. قناة فضائية يملكها ملياردير سعودي. يمكنها أن تفعل الكثير تحت إدارة صحافي كبير وإداري محنّك مثل جمال. بنى المؤسسة من الصفر، استقطب كوادر ميدانية وتحريرية وفنية ناجحة، وصارت القناة جاهزة..!
ثم جاءت المفاجأة الصادمة في أول يوم، ببثّ تقرير إخباريّ صادم. وعلى أثر ذلك توقّف ترخيص القناة في البحرين. وراح الوليد وخاشقجي يبحثان عن مقر آخر، لتأتي مفاجأة نهائية بإلغاء القناة..!
(4)
في يوم من أيام رئاسته “الوطن”؛ فاجأنا بوجوده في الدمام. زار أمير المنطقة وقتها، الأمير محمد بن فهد. ثم اجتمع بنا، وفاجأنا “أنتم مقصّرون”. كان مكتب الدمام الإقليمي يُضارع “غرفة أخبار” متكاملة، ويرفد الصحيفة بعشراتٍ من المواد اليومية، في المحليات والمجتمع والاقتصاد والرياضة، ويكاد لا يختفي اسم “الدمام” عن الصفحة الأولى.
(5)
شخصياً؛ وفي مكالمة مفاجئة؛ عرض عليّ رئاسة قسم المحليات في المركز الرئيس، أبها. إنه عرضٌ كبير فعلاً. لكنه يحتاج إلى تضحيات بالنسبة لي. طلبتُ إليه أن أجربهم ويجرّبوني، قبل القرار النهائي. اتفقنا على أسبوعيْ عمل في أبها؛ وهذا ما تمّ.
كان كلُّ شيءٍ داعماً في أبها. قسم المحليات هو أكثر الأقسام تعقيداً في الصحافة المحلية. لكنني ذهبتُ إلى قسم ناضجٍ، وزملاء خبراء محترفين. لا يحتاج الأمر إلا إلى تطوير التواصل مع المكاتب والمراسلين، وتفعيل رؤية رئيس التحرير التي كانت واضحة جداً. ثم هناك التفاصيل المالية التي يجب أن تناسب “موظفاً” يعمل في الدمام قريباً من عائلته، ثم سينتقل إلى جنوب البلاد.
إنها المنطقة التي بقيت رمادية بيني وبين رئيس التحرير. ثم اتفقنا على التفاهم لاحقاً بعد عودتي من إجازة في القطيف.. ثم جاءت المفاجأة؛ إلغاء الفكرة…!
(6)
وبالتأكيد؛ كان قرار جمال خاشقجي مغادرة البلاد مفاجأة. وتصريحاته وكتاباته الأخيرة؛ مفاجآت.. ثم هناك وفاته، وكلّ ما أحاط بها من مفاجآت..!
رحم الله الأستاذ جمال خاشقجي.
الصور: من اجتماع للراحل مع مركز صحيفة “الوطن” بالدمام. عام 2009 على الأرجح. وفيها يظهر: مدير المكتب ـ وقتها ـ قصي البدران، خالد جهاد، حبيب محمود، مسفر العصيمي، فهد العيلي، صالح الأحمد، خالد اليامي، حمد آل مطير، د. غازي عاشور.