يا عبدالخالق.. عد إلى ملفات الـ “وورد”…!

حبيب محمود

اسمعوا قوليَ أصحاب العقولْ

وانظروا في أمر ما سوف أقول

الزمان: ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك 1404هـ،

المكان: بجوار الحسينية الغربية، في بلدة القديح.

الحدث: حفل زفاف شاب.

وفي مثل تلك السنة؛ كان يُمكن لحفل زفاف شابٍّ من المتدينين؛ أن يستحيل أمسية أدب، تُلقى فيها أشعار، وتُقرأ كلمات، وتختلط التهانيْ بالمدائح، وبالمُلَح.

وفي تلك الليلة؛ عرفت “عبدالخالق” للمرة الأولى، والتقى كفّي الصغير بحجم كفه المكتنز. ما زلتُ أتذكّر وقفتنا خارج الحسينية. لقد مضى على ذلك أربعون سنة، إلا شهر وأيام. وأتذكّر أن كفّي بقيت في كفه ونحن نتحدث، متوكئاً على عكّازيه، فارداً وجنتيه بابتسامة. وأنا متورّطٌ فيما يُشبه خجل مراهق يُريد أن يكون شاعراً. متورطٌ بكفي في كفه.. بلا فكاك..!

يا لهذه الدقة التي فرضت تفصيلها على ديباجة هذه المقالة؛ و عبدالخالق الجنبي تحت المخدّر الكلّي في العناية المركزة. وليلتها؛ ألقى عبدالخالق قصيدة غزلٍ. كان غزله الكلاسيكي جريئاً، كابن خالته محمد مكّي الناصر؛ حين تزأر هورموناته في اللغة.

وكان صوته جهوراً هادراً، وإلقاؤه بديعاً. وحين يضعك الله بين هذين الشابّين ـ الجنبي والناصر ـ فإنك سوف تنكشف على ذاكرة لا قبل لها بما يحفظانه من إرث أدب العرب، وقطع مقامات الحريري والهمذاني، وعيون “فحول” الشعراء..!

بعد تلك الليلة؛ جمعنا أكثر من مايكرفون في مناسبات القديح. كان المرحوم الملا سعيد الخاطر؛ أشبه بالعريف الوحيد الذي يُقدّم المشاركين، وكان يُسبغ الثناء، ويصبّ المديح على المشاركين الشبان. وحين يتسلّم عبدالخالق “اللاقط”؛ فلا بدّ من إثارة هنا أو هناك. وذات خروج عن النص المألوف بارك للعريس ـ ليلتها ـ محمد الدشيشي، مستخدماً كلمة “العروس”؛ فضحك الضاحكون. لكنّ معرفته العنيدة؛ انبرت لتصحّح خطأً في فهم الجمهور الذي لا يعرف أن كلمة “عروس” تُطلق على الزوجين: المرأة والرجل..!

هنا؛ صمت الجمهور الذي هُزم بحافظةٍ من حديد.

(2)

وبما أننا تعارفنا؛ في تلك الليلة المذكورة، فقد افترقنا حاملاً كلٌّ منا رقم الآخر. ساكن العوامية ـ أنا، وساكن “المحدود” ـ هو. وعليّ أن أتذكّر؛ حين كنت أضرب أزرار هاتف الـ “إريكسون” الأسود؛ لينبسط الوقت على الشعر بين اثنين، أكبرهما في الثامنة عشرة، والآخر في السادسة عشرة.

وحين نتفق على أن نلتقي لأعطيه وريقاتي، أو آخذ من وريقاته؛ فإننا “نتواعد” في بيت خالةٍ له، أظنّه بيت “القصيّر”، في بعض ليالي الثلاثاء، وهي ليلة مجلس “عادة”. وكنتُ لا أطيل المكوث، رُهاباً من زحمة المجلس الصغير.. إنني أتحدث عنّي قبل أربعين سنة، مراهقاً على باله أن يشقّ طريقاً طويلة في الشعر.

وذات مكالمة؛ صارحني صادقاً: يبدو أنك تأثرت بمديح “أبو ناصر”. المديح المديح المديح.. هل يتوسّل “شُويعر” ـ مثلي ـ أكثر من المديح…؟

بالطبع؛ أريد المديح. وإلا فما الذي يدفعني إلى وضع “أجندة” لمناسبات “الموالد” لأمسك بـ “المايك” و “أهدر” أمام الجمهور بـ “النظم الموزون المقفّى”..!

هااا..؟

لا يكفي أن يكون الشعرُ نحواً وصرفاً ووزناً وقافية. لا يكفي أن تأتيك كلمة “أحسنت” من رجلٍ جالسٍ في آخر المسجد أو الحسينية. الشعر لا يكتفي باكتفائك. عليك أن تُكابد، وتعاني، وتتألّم. ربما عليك أن تصرخ:

وإنّي في يقينٍ أن حظي

من الدنيا سرابٌ في سرابِ

وأني ما خُلقتُ لرغْدِ عيشٍ

كأن الهمّ والأحزان داْبي..!

ولو أن القضاء أراد شخصاً

يحطّمه؛ لأقبل نحو بابي..!

هاااا..!

لماذا كلّ هذا الوجد والألم يا عبدالخالق…؟

ربما فهمتُ لاحقاً؛ حين كنتُ أذهب إلى منزله ماشياً من مخطط “المزروع أ”؛ إلى شرق المحدود أ، أيضاً. ربما وجدتُ بعض الإجابات عند الشاب الشاعر. ليس سهلاً أن تفقد إحدى قدميك طفلاً، لتعيش بقية عمرك على عكّازين. وما فهمتُه كان وهماً. فأنا لم أعرف راكضاً لا يتوقف؛ أكثر مما عرفتُ عن عبدالخالق منذ أكثر من أربعين سنة.

(3)

وليس العكّازان بأكثر من صديقين وفيّين، مثل دابّته الأولى التي لزمته سنوات.. الكابرس الضخم ذات طراز 1978. وكنتُ أميزها من “نور الرَّيوِس”. وذات حديث قال لي إنه إذا ذهب إلى القديح، فإنه لا يدخلها من شارع “المستوصف”، بل يُطيل الطريق إلى مدخل “السدّ” من جهة العوامية، ليرافق النخيل أطول وقته…!

تلك “الكابرس” الضخمة؛ ركضت به في صحارى الشرقية، مُستطلعاً مواقع آثار وجدها في مصادر التاريخ التي أدمنها، والتصقت بذاكرته أسماؤها وأشعارُها. حتى كأنه اتخذ من ذي الرمّة بوصلةً مكتوبة بالشعر؛ أو نجوماً في سماء الكتب تقوده إلى ما وراء ثاج والنعيرية والقرية العليا، فضلاً عما في الأحساء ووراءها. وقبل ذلك ما في القطيف وحولها، وقريبٍ منها..!

(4)

كأن عبدالخالق تخلّى عن الشعر. كثيرٌ من المهمّين بدأوا شعراء، ثم تخلّوا عن الشعر. أخذه التاريخ، الآثار، ونقاشات البحث والصدام والعناد الذي لا يكلّ ولا يملّ.

في منتدى الغدير؛ ظهرت مراهقته بين الشعر والتاريخ. أظنّ تشخيصي صواباً. وفي تجريبٍ جديدٍ على شكل اللغة، واستعمال الرمز؛ تلا علينا ذات ليلة:

قريباً ستنفجر الشرنقة..!

لم نكن نعرف ماذا في بطن عبدالخالق من معنى. والذي فهمته ـ وقتها ـ أن عبدالخالق لم يعد ذلك الكلاسيكي الرتيب في كتابة الشعر.

جميعنا؛ خضنا التفعيلة؛ تجريباً على الأقل. باستثناء عبدالكريم آل زرع (الشيخ لاحقاً)، والدرب الآتي لكلّ منا مجهولٌ، وأكثرنا على بوابة الجامعة، باستثنائي، فقد ورّطتُ معي وظيفة حكومية. وعبدالخالق ذهب إلى جامعة الملك عبدالعزيز في جدة، بيد أنه لم يُكمل، ولن أُكمل هذه القصة طبعاً.

القصة التي عليّ إكمالها؛ هي أنني “انحرفتُ” من الأدب إلى الصحافة، وشباب “منتدى الغدير” استمرّ بعضهم على ما هم عليه، وبعضهم “انحرف” ـ بشكل ما ـ عن الأدب إلى ضرورات حياته..!

ثمّ انتبهتُ إلى عبدالخالق “ناسخ آلة” في أحدى فروع وزارة الشؤون الاجتماعية (كما اسمها السابق). وظيفة أصغر من حجمه بكثير.

ثم انتبهتُ مرة أخرى؛ فوجدته في مكتبٍ في ردهة مستشفى القطيف المركزي. وكلما زرت المستشفى؛ أحتسي الشاي معه.

ثم انتبهتُ، قبل أسابيع، إلى أنه لم يعد موجوداً. قال زملاؤه إنه تقاعد..!

وفي كلّ سنوات “انضباطه” في الدوام؛ ما كان حجم الوظيفة مهمّاً عند عبدالخالق، في تقديري. كان عبدالخالق يكبر أكثر فأكثر يوماً بعد آخر، بعيداً عن كونه “موظفاً”. واستمرّ يركض ـ بلا عكّازين ـ في أمّهات الكتب وآبائها باحثاً ومنقباً ومحققاً ومدققاً ومقارناً.

ثم يعود من هذا الانكباب الغارق؛ مُجاهراً بما اقتنص من تاريخ الشطر الشرقي من بلادنا، وجغرافيّتها.

وكان لا يبالي؛ وقع السخط عليه، أو هو وقع على السخط. “يصدع” وينشر ويدافع عن نتائج تنقيبه وحفرياته. بل ويُهاجم من يراهم قاصرين عن “شأوه”، وينتقد موجعاً بلا هوادة. تلك شجاعة قد يراها بعضنا حُمقاً. لكنها ليست حمقاً والله. وما حدث في تحقيق معجم البابطين لديوان علي بن المقرب العيوني لصالح مؤسسة البابطين؛ كان صرخةً من أصدق صرخات تحقيق مخطوطات التراث؛ في وجه محقق لم يعرف شعر ابن المقرّب ولا أرضه ولا ظروف تاريخه.

وفي ذلك تفصيلٌ عريض طويل؛ ملأ به عبدالخالق صفحات كثيرة من صحيفة “الوطن”، ثمّ أخرجه في كتاب “الجنايات”.. ولن أكمل القصة هنا أيضاً.

(5)

القصة طويلة يا أبا طاهر. وما زال عليك أن تواصلها، لنختلف معك، ونصطدم معاً. ما زالت لديّ رغبة في أن أغتابك أكثر، وأشكك في بعض نتائجك، أو أصفك بالمبالغ. كلّ ذلك لا يهمّ. ما يهمّ هو أن تعود إلى بيتك، وتستعيد جدول يومك، وتسمع فيروز في صباحك من منزلك، لا من طريق عملك الذي تقاعدتَ منه. ثم تلعب في نهارك كما يحلو لزحام كتبك، وشكوى جهازك من كثرة ملفات الـ “وورد” التي عليها أن تكتمل..!

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com