سيرة أخّاذة لواحد من نُدماء الـ “لوكيميا” حسن دعبل في "وحشة البئر"

كتب: حبيب محمود

في “وحشة البئر”؛ لا يُضمِر حسن دعبل سرّه، ولا يفضحه على نحو نيّيء. بل يمنحه فرصة للمزاوجة بين ما هو موضوعيٌّ وما هو ذاتيّ، عبر استرسال سرديّ متواصل لا يتوقف إلا عند بلوغه الصفحة السادسة بعد المئة. وهكذا خرج دعبل بعمل سرديّ حميم، منح فيه الـ “لوكيميا” سيرةً أخّاذة عمادها مونولوج داخليّ يقصّ ويستطرد ويستحضر ويمرّ من محطّات أيامٍ صعبة دون أن يتورّط في المباشرة اللغوية الاستعطافية.

القصة ليست على ما تبدو عليه من صراع حيوكيمياوي مؤلم بين أدوية باهظة الثمن وخلايا سرطانية في جسد مريض، كما تقول طبيبة الراوي. ربما هي مكافأةٌ منحها حسن دعبل لحسن دعبل فوق مكافأة البشارة بالشفاء النهائيّ في نهاية الحكاية. وعلى ما فيها من شهقات فزع؛ فإن في ساحة العمل السردي الكثير من الفرح، حتى من قبل أن يولي وجهه صوب البحر “بفرحة طفل طاهر بأوقاته”.

ومنذ مطلع المفاجأة يصرّح الراوي “أحب نفسي. كثيراً ما دلّلت أوقاتي وملكتها، وضحكت بالفرح مطعوناً حتى بأعيادي”. وفي حضن المرض يرى “القبر باسطاً شراشفه، ملطّخاً برائحة الدواء”. ويتذكر “أتونابشتم وأروشتابي الملاح” و “جلجامش في تيهه ورحلته وبحثه عن خلود بعيد” و “أنكيدو المقتول على جسد شمخة اللعوب”.. الراوي المريض يتذكر ويتذكّر.. الفرح والرقص والمواليد والإنشاد والنذور.

وفي مزاوجات واضحة؛ تتشابك الحالة المرَضية الذاتية/ بالحالة المعرفية الموضوعية، في سرير المرض/ القبر. إنه تشابك جمع ابن جزيرة تاروت وابن طرابلس في غرفة واحدة، مريضاً وممرضاً. وفي حواره الداخليّ قال الأول للآخر “أنت من البحر العُلويّ، وأنا من البحر السفلي.. أنا من جزيرة تحمل اسم آلهتك المقدسة عشتاروت”.

تتجاور التفاصيل بصدق واقعيّ مخلوط باستطراد فني. وفي غفوةِ أخْذ عينة “خزعة النخاع العظمي”، يسافر الراوي عبر الأحقاب.. مدن مطمورة، قبور، بنادر، سفن متآكلة، فقراء وعبيد، مدافع، جنود، أبرشيات.. التاريخ المُختزَل في حصيلة الراوي يسوق أيقونات الأزمنة التي عبَرت ساحل الخليج. وتمضي هلوسة المريض المخدَّر إلى صور العابثين “تتقافز المعثورات تباعاً”.. تتوجّع الصورة أكثر “فخاريات تتكسر وجرار”، “جدارية لراهبة بشعرها، تتكسر بجهل معاولهم.. فرحون وهم يرمونها بأكياس بلاستيكية”.

والسؤال الموجع “في أي الأزمنة أنا..؟”. ولا إجابة إلا مزيد من هلوسة المريض المخدّر الذي يصادف “امرأة مجللة بوقارها”، فيعبر بها السبخة الفاصلة بين دارين والقطيف قبل الماء، وصولاً إلى سوق “الجبَلة بصراخ باعتها ودكاكينهم”. وتمضي الهلوسة إلى حيث يُذكّر الراوي قارئه بمن يكون المؤلف خارج نصه السرديّ. حسن دعبل ذلك الباحث المسكون بالبحر والتاريخ وأساطير بلاد ما بين النهرين الممتدّة حتى تُخوم عُمان، بما تنطوي عليه من تداخلاتٍ عقدية وميثولوجية وبيئية وديموغرافية. المريض الواقع تحت المخدّر واحدٌ من حفّاريْ الأزمنة، وفي هلوسته؛ يتلصّص على سفن القراصنة ويسمع دويّ المدافع، ويرى سقوط أبراج الحصون، ويبكي وهو يودّع الماضين إلى “هيرات” اللؤلؤ في أعالي مياه الخليج.

تمضي الحكاية في طريقين؛ أحدهما معنيّ بتفاصيل واقعٍ كما هو، والآخر مُشتغِل بمهمّة أخرى.. مهمّة جمالية. ولذلك؛ فإن العمل، برمّته، هو أقرب إلى السيرة الذاتية منه إلى الرواية الإبداعية. إلا أنها سيرة ذاتية لم يمنح فيها الراوي لنفسه بطولة يُمكن التشكيك في نمطيتها. إنه مجرّد مريض محظوظ بكونه من أبناء “الأم الحنونة”. وهذه الصفة أطلقها البحّارة القطيفيون على شركة أرامكو. كانوا يشاهدون حافلاتها تأخذ عمّالها صباحاً وتُعيدهم مساءً. شبّهوا الشركة بـ “الأم الحنونة”، وانتشر الوصف في المنطقة. والراوي تلقّى علاجه من هذه الأم لأنه يعمل فيها.

كأنّ الراوي أراد أن يوميء إلى الحظ الذي أمّن له علاجاً باهظاً لمرض مرعب. وهكذا راح يرصد ما يجري بلغة صريحة، وتكاد تكون مباشرة. وما إن وضعت الحكاية سطورها على الثلث الأخير منها؛ حتى كشفت المهمة الوثائقية عن نقابها. استحالت قصة سعيدة وسهلة ومُخبرة.

شُفيَ الراوي من سرطان الدم في مُدة وجيزة. وقالت له طبيبته “أي معجزة يا حسن.. أنت الآن حرّ طليق، في الخروج والنوم والأكل، لا خوف عليك”. ولكن بقي في الحكاية جزءٌ عالقٌ عاشه الراوي في منتصف الحكاية.. إنه جزءُ “صرخة الندماء، وهم يتوزعون على خارطة الكون بأنينهم وفقرهم وعوزهم”. فـ “هناك من يبحث عن سعر مناسب للدواء.. هناك من يصرخ ويطلب العون لأمه المريضة.. هناك من يعرض ما تبقى له من دواء للبيع.. هناك من يمد يد العون من بعيد”.

  • الكتاب

    • وحشة البئر.
    • حسن دعبل
    • 106 صفحات.
    • دار جداول ـ بيروت
    • أكتوبر 2012.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×