السبيل إلى كسب عداوة الآخرين
السيد إبراهيم الزاكي
لماذا تنزلق بعض الحوارات عن النهج الرَّفيق والليِّن في الاختلاف، والجدل بالتي هي أحسن، إلى أسلوب العنف والقسوة، والجدل بالتي هي أسوء، حيث تتوتر فيها الأجواء، وتُستفز النفوس، وتُثار الضغائن، وتعلو معها لغة الصراخ؟
هل من سبيل إلى إقناع الآخرين، ومن نختلف معهم، بالحكمة، والموعظة الحسنة، وبالتي هي أحسن، وبطرقة تتخاطب فيها العقول وتتحاور، بدلاً من الانزلاق إلى سجالات تستخدم فيها مختلف أنواع وأساليب القصف الكلامي، والتجريح، أو السب والشتم، أو التضليل والتكفير؟
لقد أصبح مجال الحوار والجدل والنقد المتبادل اليوم مفتوح على مصراعيه لكل من أراد ذلك، حيث أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي وسيلة مثالية وسهلة للتواصل والتفاعل بين مستخدمي تلك المواقع، والتعبير عن آرائهم بحرية، وإيصال وجهات نظرهم من دون قيود، بغض النظر عن وَجاهت ما يكتبون، أو يقولون، وليس بالضرورة أن تكون وِجهات نظر منطقية، أو مقبولة، فهذه المواقع وفَّرت إمكانية التنفيس عن المشاعر المكبوتة بصرف النظر عن ماهية المضمون وقيمته.
إلا أن ما يؤسف له حقاً أن البعض من رواد هذه المواقع أصبح يستخدمها في هجاء الآخرين، والتفتيش عما يسيء إليهم، وينتقص منهم. فهو يتقصُّد الإساءة إليهم، بقصد التجريح وإلحاق الأذى بهم، مدعياً أنه يمارس النقد، وتصحيح المفاهيم، أو تقديم النصيحة، فيما الحقيقة غير ذلك تماماً. فالخلاف مع الآخرين مهما كان عميقاً لا يبرر الإساءة إليهم، خصوصاً حين يكون هدف المُدَّعي التنوير، أو إشاعة ثقافة النور والهدى. لأن ذلك يتطلب خلق مناخ من التفاعل الإيجابي، وإشاعة الكلمات الرقيقة اللينة التي تحاكي القلب، فتستثير فيه كل معاني الرحمة والمحبة، لا إثارة الغرائز والتباغض والعداوات.
وبناءً على ما سبق نتساءل مرة أخرى: هل يمكن لأحد مارسنا تجاهه كل أنواع وأساليب التجريح، والقسوة، والعنف اللفظي واللساني، واستفزينا مشاعره وأحاسيسه، أن يستجيب لنا ولمواعظنا، أو أن يقتنع بأفكارنا وقناعتنا، أو أن يتفق مع وجهة نظرنا وآرائنا، أو يتعاطف مع القضية التي نؤمن بها، مهما كانت محقة ومقنعة، وذلك عندما نؤذيه، ونوبخه، ونسفه رأيه، ومعتقده، ومتبنياته، أو حين نحط من قيمته، وشأنه، وقدره، ونجرح مشاعره وكبريائه وكرامته؟
عندما تنتشر وتتفشى وتسود لغة الشتيمة والتجريح والتراشق بالكلمات النابية، والألفاظ البذيئة الخادشة للحياء والكرامة، على حساب لغة الحوار والقيم والأخلاق الرفيعة، فإنه من الصعب إيجاد آخر يقبل الجلوس معنا كي نتحاور معه، ونتبادل وإياه الرأي، والاستماع إلى وجهات نظر بعضنا البعض. وهو الأمر الذي يدلل حال حدوثه على وجود ضعف وقصور وعجز ذاتي يحول دون القدرة على التواصل مع الآخرين، وإقامة علاقات الصداقة والود معهم، والوصول معهم إلى لغة تفاهم وتوافق وتعايش مشتركة، ترتقي بالعلاقة والحوار إلى مستويات عالية ورفيعة من الانسجام والتهذيب والرقي.
فإذا لم نسعى إلى إقناع الآخرين من خلال قوة المنطق، والعمل على كسب ودهم بالطرق والأساليب المهذبة والحسنة، والتي تحولهم من خصوم، أو أعداء، إلى أصدقاء، وإلا فإننا لن نتمكن من كسب عقول وقلوب الآخرين بمنطق القوة، والطرق العنيفة، وأساليب التجريح والتسفيه والتضليل والتكفير. بل إننا بهذا الأسلوب نكون قد كسبنا عداوتهم، وخسرنا ودهم وصداقتهم، وأيقظنا فيهم عصبياتهم، وأثرنا في نفوسهم الشكوك والظنون والقلق والمخاوف، وهو الأمر الذي يؤدي إلى الانكفاء على الذات والانغلاق عليها، بدلاً من التواصل والتعايش والتعاون والانفتاح.
وعليه كم يحسن بنا إتباع الأسلوب الحسن الرفيق والليِّن في التحاور مع من نختلف معهم، وليسعى كل طرف إلى إقناع الآخر بوجهة نظره من خلال ما يملك من معطيات، ويستند إليه من معلومات وحقائق وأدلة. أما الأساليب العنفية، مهما كانت شدتها وقساوتها على من نتحاور معه، فلن تحل مشكلة، ولن تغير قناعة، بل ربما تجعله يتشبث بها أكثر، ويزداد قناعة فيها، وربما يزداد الأمر فداحة حين يتحول هذا الإنسان، بسبب هذا الأسلوب العنفي، ليكون إنساناً متعصباً، إن لم ينجر إلى ممارسة العنف.
إن استمرار الحديث والكلام عن التعددية والاختلاف الايجابي الخلاق، لن يكون ذا جدوى وقيمه، بل سيظل ناقصاً وقاصراً، إذا لم يكن الجميع مقتنعاً بلغة الحوار، وقادراً على الاحتكام إلى مقتضياتها وشرطها وشروطها. وإلا كيف نكون ديمقراطيين ومؤمنين بالتعدد والاختلاف، ونحن لا نستطيع التحكم بخلافاتنا، أو إدارتها وفق قواعد وأعراف وضوابط من شأنها إشاعة ثقافة الحوار والتفاهم والتواصل البناء.