جدليات عاشوراء.. صراع السائد والمستجد في القطيف تشخيص اجتماعي لأنماط التفكير الجمعي منذ 2003 وما بعده

علي الشيخ أحمد

كثيراً ما كان مجتمع القطيف منفتحاً على موجات التغييرات الفكرية من مختلف المشارب. وبسبب ذلك يتجدد صراع بين النمط الفكري السائد في المجتمع والنمط المستجد. وذلك يحدث قديماً وحديثاً. وقبل أكثر من مئة عام تقريباً؛ شهد المجتمع واحدةً من أقوى الصراعات، حين بدأت الأصولية ـ الفقهية ـ في الانتشار؛ ودخلت في صراع مع النمط الفكري ـ الفقهي ـ السائد والمتجذر اجتماعياً وقتها وهو المدرسة الاخبارية. وغني عن القول إن موقع المدرسة الاخبارية تراجع عن مركز السيادة في المجتمع، واستقر النمط الأصولي.

و كان هذا التصادم المحلي ارتداداً للاصطدام التاريخي بين المدرستين على مستوى الطائفة الشيعية كلها.

في الستينات، حصل صراع اخر بين الفكر اليساري الوافد وبين المجتمع المحافظ. حصلت تجاذبات اجتماعية بين الطرفين وانتهت سريعا الى انزواء الفكر اليساري عند نخبة اجتماعية غير فاعلة في الحراك الاجتماعي.

والصراعات ـ أياً كان شكلها ـ تتبع نمطاً ثابتاً يمرّ بأربع مراحل دائماً، عبر النمط الذي ابتكره وطوره العالم الامريكي بروس تكمان عام 1965. والمتخصص في ديناميكات الجماعات. هذه المراحل هي التشكُّل، ثم الاصطدام، ثم التطبيع، ثم الانطلاق.

الاصطدام الفكري بين التيارات الاجتماعية يحتدم عندما ينازع نمط جديد نمطا سائدا في المجتمع ، قد ينتج عن ذلك تشكل نمط اخر تماماً, هوعبارة عن نتيجة تفاعل النمطين المتصارعين. وهنا لا يكون بالضرورة البقاء للأصلح، وإنما للأكثر كفاءة على التكيف مع المستجدات من جهة والأكثر ذكاء في إدارة الصراع من جهة اخرى.

فلندرس وضع القطيف في السنوات القليلة الماضية، فمنذ 2003؛ بدأ نمطان اجتماعيان بالنمو بشكل متضاد في القطيف، نمط محلى ومتأثر بالتحولات الاخيرة في العراق وغالبيته ذو صبغة دينية مفهومة، و نمط أخر بدأ يتشكّل في الداخل السعودي المحلي، عبر حزمة تحولات، مثل الابتعاث، والتفاعل مع ثقافات جديدة ذات صبغة غير دينية.

النمط الاول تشكل بسبب التغيرات السياسية في العراق، بعد سقوط نظام البعث وظهور قوى سياسة جديدة، للشيعة نصيب وافر منها. ومنذ ذلك الوقت بدأت تأثيرات اجتماعية دينية كبيرة تفد الى القطيف عبر وسائل الاعلام الفضائية من مراكز التشيع في العراق.

العراقيون الشيعة الذين عاشوا حالة حرمان طويلة من ممارسة شعائرهم؛ عادوا بقوة، ضمن ردات فعل أشبه ما تكون بتسونامي في الطقوس. ثم توسعت الطقوس، وتعددت، وأصبح المجال فيها مفتوحاً لكثير من الأفكار والممارسات التي تلبست بلباس الدين والغيرة على المذهب. ومن الواضح أن منها ما هو غير منضبط، لا شرعاً ولا عرفاً. وكان من الصعب ـ بل من المتعسر جداً ـ على الفقهاء و علماء الدين والقيادات المذهبية وقف هذا التيار الشعبي الجارف، أو حتى توجيهه توجيهاً سليماً.

من أمثلة ذلك؛ التطبيرو التطيين وهي كممارسات عاشورائية يتبناها البعض وينكرها البعض الاخر.

 و كان منها ايضا بروز الخطاب المنبري المتعلق بماورئيات غيبية مبالغ فيها. كثر الحديث عن الأحلام والاستدلال بها لتعزيز معتقدات او ممارسات معينة، وظهر الحديث عن الاقتراب الوشيك لظهورالامام المهدي و التوقيت لظهوره، و كذلك وصف العباس بن علي عليهما السلام بـ “الإمام” في مناسبات عاشوراء.

  أضف الى ذلك تمدد المناسبات الدينية السنوية لتشمل غير المعصومين. وتحول مناسباتهم لتكون في عشرة ايام بدلاً عن يوم واحد. وهنا ليس لنا أن نتطرق الى حلية او حرمة هذه المستجدات الاجتماعية من جانبها الشرعي وانما الى بروزها كظاهرة اجتماعية ذات طابع طقوسي.

هذه النمط بدأ ومازال في أوجه، وهو مناسب لحالة المتلقي الشيعي الشعبي في العراق الذي أخرجته اضطرابات السياسة المتعددة والمتطاولة من التاريخ الحديث، ووضعته خارج الوعي اللازم لخروجه مما يمر به من ازمات متلاحقة.

وهذا ليس بتعالٍ على وضع أخواننا في العراق، وانما هو توصيف مبسط لما تُحدثه مشكلات السياسة والحروب في تأخير وعي المجتمع و بروز بعض الممارسات التي قد يحسبها البعض على الخرافة وسيادة الغيبيات الخارجة عن تقييدات الدين وضوابطه.

وعلى العكس من ذلك في القطيف؛ تشكّل نمط اجتماعي آخر مضاد لتأثيرات موجة الطقوس الشيعية الوافدة من العراق. هذا النمط مرتبط بعدة عوامل تقنية وعلمية. التقنية منها بروز الحوارات الثقافية والفكرية والدينية في مواقع التواصل الاجتماعي بين النخب الشيعية، وغيرها من المذاهب الفكرية الأخرى اسلامية او غير اسلامية. وأيضا دخول المجتمع في موجات البعثات الاكاديمية الكثيرة التي حصل عليها ابناء القطيف منذ عام 2005 وما زالت مستمرة، وتواصل المبتعثين مع ثقافات متعددة في قارات العالم.

هذاه البعثات فعلت فعلها في عقول الشباب، وأحدثت تغييراً في وعي جزء كبير من المجتمع، وأحدثت تفاعلاً في مختلف الشرائح الاجتماعية سلباً وإيجاباً. وفي الوقت نفسه؛ تماهى بعضهم مع تيارات مثقفين موجودين قبل هذا التحوّل.

وليس من السهل على آلاف من حملة الشهادات العليا أن يذوبوا في النمط الاجتماعي الذي سافروا عنه ورجعو اليه بحلته الجديدة، حيث عادوا إليه بالبكالوريوس والماجستير والدكتوراه..!

وليس من السهل أيضا إقناعهم بكل تفاصيل ما وصل إلى المجتمع من مظاهر مذهبية بعضها في الأصل ردات فعل لمجتمع اخر عانى الكثير، أعني مجتمع العراق.

إذن؛ نحن أمام نمطين، نمط بمزاج شعبي عراقي، ونمط بمزاج انفتاح على علوم وثقافات جديدة. وقد سببت هذه الحالة الاجتماعية الفريدة نوعاً من الاصطدام بين بعض فئات مجتمع القطيف، بين ما يطرح في المنبر المحلي من أفكار من جهة، وبين عقول المتلقين الجدد.

وللموضوعية فليس كل أبناء المجتمع من مثقفين و رجال دين يقفون على مسافة متساوية من هذا الصراع. فهناك مثفقون محافظون اكثر قربا للنمط الاول. وهناك علماء دين منفتحون على النمط الثاني المستجد و هناك فئة ثالثة صامتة.

ويحتدّ هذا الاصطدام اجتماعياً، بشكل صارخ، خلال موسم عاشوراء، بسبب كثافة الخطاب الموجه للمجتمع وكثافة الحضور.

ويبدو أن حالة الاصطدام هذه؛ مرشحة للاستمرار، لمرحلة من الزمن ليست قليلة، ومن المحتمل ان تزداد في السنوات القادمة.

وما يدعو لمثل هذا القول هو أن عوامل قوة الموجة العراقية آخذة في الازدياد. وفي الوقت نفسه؛ فإن عوامل الموجة المضادة في القطيف تزداد أيضاً بسبب عوامل داخلية.

وسوف تحلُّ مرحلة التطبيع، بشكل أو بآخر، لصالح الأكثر كفاءة على التكيف لما سيستجد في قادم الايام من تغيرات اجتماعية.

ولا يعلم أحد، متى ينتقل صراع المجتمع إلى المرحلة اللاحقة.. مرحلة التطبيع، ثم الانطلاق، على افتراضات عالم النفس الاجتماعي تكمان.

والذي نأمله للخروج سريعا من هذا الاصطدام القائم؛ هو الحوار المباشر بين فئات المجتمع وشرائحه، خاصة المثقفين ورجال الدين، بعيداً عن التعالي المعرفي، والتسقيط الاجتماعي، وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة.

‫2 تعليقات

  1. المهندس ابوحسين
    كالعادة تغيب كثيراً عن الكتابة وترجع بتحفة فكرية عميقة وهذا ديدنك ومن عرفك يشهد بذلك بأنك وعلى الدوام لديك ربط لكل ممارسة احتماعية اودينية مستجدة بالتاريخ القديم وان اختلفت بعض التفاصيل لكنها مقالة هادفة بالإيجاب لفهم الشارع ألقطيفي قديماً وحديثاً ومابينهما فكرياً وعاطفياً
    فالقطيف مرت بصراعات فكرية وقد ذكرت بعضها فالصراع لايعني الجمود الفكري بل الانفتاح وتقبل كل جديد ومستجد
    وهذا يميز اهالي القطيف وبلداتها قد يستقل احدنا فكرياً بفكرة ما يراها المجتمع مخالفة عقدياً او اجتماعياً لكن يترك له خط رجعة
    وخط الرجعة يتمثل في عدم إثارة المجتمع عليه ويناقش افكاره مع اشباهه في التفكير والمسار ويحافظ على بعض الاعراف والتقاليد ولو لم يؤمن بها رِعاية الى مجتمعه الذي هوا اساس ولد من رحمه وتكيف معه ولو لفترة يسيطة إلا أن في السنوات الحديثة برزت وجوه جديدة وليست كثيرة لم تقرأ تاريخ المختلف فكرياً وعقدياً في عدم التصادم مع المجتمع
    وهذا يحتاج الى بث تلك الثقافة الى اجيالنا الصاعدة عبر مقالات او ندوات تعقد هنا وهناك

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×