من هو الإعلامي..؟ بطولات الديسك…!
حبيب محمود
بضرسٍ شبه قاطع؛ وبلا تردُّد ولا مواربة ولا توريةٍ؛ أكاد أجزم بأنني لم ألتقِ صحافيين ذوي ملكات متكاملة، إلا قليلاً. البارع منهم في الميدان؛ ضعيف في التحرير. والمُدهش في الصياغة؛ كسولٌ في وسائل الحصول على المعلومات. ولو أحصيتُ من عرفتهم ناجحين في جمع مهارات الميدان وملكات التحرير؛ لما وصل العدد إلى عشرين..!
أقلّ من عشرين صحافياً محترفاً، هذا ما استقرّ عليه رأيي؛ منذ تطفّلتُ ـ متعاوناً ـ على الصحافة في بدايات 1993؛ حتى الآن. وحتى أكون محدّداً؛ فإنني أعني الصحافيين السعوديين عيناً. ولعلّ هذا الاكتشاف هو أول صدمات المهنة بالنسبة لي.
قبل ذلك؛ كنتُ أقرأ الصحف؛ فتسحرني الأسماء، والصياغة، والأساليب. وحين دخلت “المطبخ الصحفي”؛ هالني ما لم أكن أعرف. ومع العمل اليومي؛ اتّضحت لي الصورة “الواقعية” التي لا يعرفها إلا من يدخل معمعة العمل.
كلُّ الصحف؛ لديها ما يُعرف بـ “الديسك الصحفي”، أو “المطبخ الصحفي” أو “غرفة الأخبار”. إنه قسم تحريري داخلي تصبُّ فيه المواد الآتية من وكالات الأنباء والمراسلين والمؤسسات ومصادر المعلومات. ووظيفة هذا القسم هو فرز ما تحتاجه الصحيفة، قبل تجهيزه للنشر.
وهي عملية في حاجة إلى حسٍّ عالٍ، وسرعة، وبديهة في القرار الأولي.
بعض المطابخ الصحفية مركزية لكلّ المواد، وبعضها لكل قسم.. فهناك ديسك للشؤون المحلية، الرياضة، الاقتصاد، الثقافة، التحقيقات.. الخ
الديسك الصحفي هو العقل المتحرك بين المادة وبين القاريء.. فالقصة ليست في أن المراسل “سين” جاء بخبرٍ من الأخبار، بل كيف يكون هذا الخبر جزءاً من صورة أرحب. وكيف يمكن ربطه بما قبله وما بعده من أحداث مشابهة، وكيف تُستخرج منه معلوماتٍ “فنية” غير النص المكتوب.. وقبل ذلك؛ كيف يُعامل في سياق القوانين والأنظمة والمسؤوليات، تحت نظر سياسة النشر، وأصحاب الصلاحيات في الصحيفة.
بعض الأخبار الصغيرة يستحق أن تجتمع قيادات الصحيفة من أجلها، لأنها ليست أخباراً صغيرة. والديسك الصحفي مشارك أساسيُّ في ذلك.
الديسك قد يطلب تطوير الخبر ميدانياً من المراسل، قد يركض محرر الديسك إلى مركز المعلومات لفهم خلفية ما. وفي زمننا هذا قد يذهب إلى قوقل.
قد يذهب محرر الديسك إلى مصمم الجرافيك لصناعة محتوى بصري. ثم بعد ذلك كله؛ يضع الصياغة النهائية.
هذا في الصحافة الورقية؛ ولم يتغيّر شيء أساسي من هذا في الصحافة الإلكترونية. بل إن مسؤولية محرر الديسك ـ في النوع الأخير من الصحافة؛ باتت أعلى وأخطر وأشدّ حساسية.
حين كنتُ قارئاً فقط؛ كنت أقرأ اسم المراسل؛ فأظنّ أنه صانع كل شيء.. إلا الطباعة. وبعد دخولي “المعمعة”؛ صُدمتُ بمن كنتُ أراهم أبطالاً. أكثرهم يُرسل خبره أو تقريره أو تحقيقه “معكوكاً”؛ لا يُعرف “راسه من كرياسه”.. ثم يأتي الديسك الصحفي ليجعل من المادة “المعكوكة” شيئاً يمكن قراءته..!
محررو الديسك هم الجنود المجهولون الذين يصنعون بطولات آخرين، دون أن يعرفهم أحد. وكثيرٌ من الأبطال الذين نقرأ أسماءهم على الأخبار والتقارير؛ بالكاد يجيدون الكتابة السليمة. لكنّهم ناجحون في علاقاتهم، وبعضهم أذكياء جداً في التقاط الخبر، ويتحلّون بروح الصبر على الإزعاج. ولهذا تنمو المهارات الميدانية لديه كثير منهم، وتتشعّب علاقاتهم، ويدخلون نادي المعروفين في الوسط الصحفي..!