روح أحمد أبو السعود تجمع أصدقاءه في حفل وفاء مثقفون في القطيف يستذكرون سيرة مثقف شمولي.. شعراً ونثراً
القطيف: صُبرة
لم يكن من الصعب تمييز الجالسين على امتداد الضلع الشرقي، بالذات، من حسينية السنان مساء البارحة. من أقصاه إلى أقصاه؛ تركّز صفُّ الجالسين على حضورٍ شبه خاص من جيل مثقفي الخمسينيات والستينيات.. أمثال الدكتور جميل الجشي، عضو الشورى السابق وسفير المملكة الأسبق في طهران، والدكتور حسن البريكي، والشاعر عدنان العوامي، والشاعر محمد سعيد البريكي، والموسيقي محمد السنان.. إلى جانب جيل تالٍ.
كان هذا الجيل جزءاً من حضور ملأوا مقاعد الحسينية، وجلسوا لأكثر من 90 دقيقة في متابعة تأبين الأديب أحمد أبو السعود من منصّة حفلٍ تولّى الصحافي فؤاد نصر الله عرافته، وشارك فيه أصدقاء الراحل وبعض أسرته. وتشارك الجميع في صناعة مساء وفاء للصداقة وللثقافة، على الطريقة المعروفة في إرث مجتمع القطيف وعُرفه في تكريم الراحلين من وجوه المجتمع، علماءَ أو أدباءَ أو وجهاءَ.
الشعر مختزلاً
هكذا إذن؛ حضرت روح أحمد أبو السعود مساء البارحة. وهكذا تقاسم أصدقاؤه صورة صديقهم المرهف الحس الذي رحل قبل أشهر. رسم كلٌّ منهم الجزء الذي رآه في صديقه.. وقف 13 منهم أمام صورته المعلّقة خلف المنصّة. وعلى لسان محمد سعيد الخنيزي ألقى عصام الشمّاسي مرثيةً قصيرة.. مثل قِصر مرور السحاب:
أحلمٌ تراءى بلا يقظةٍ
وطيفٌ يمرُّ كمرِّ السحاب
وحرّكت نشوة الذاكرة عبدالخالق الجنبي الذي كان مُقتصداً في رثائه أيضاً:
غريباً صرتَ في كِنٍّ غريبٍ
فيا لكَ غربةً تغفو وتصحو..!
الصورة لها أبعادها.. ولدى علي المهنّا بُعدٌ واضحٌ:
ما توانيتَ عن لقاءٍ ومسعى
فيهما للبلادِ نفعٌ جزيلُ
وبذلتَ الكثيرَ جهداً ووقتاً
كان بالقلب جهدك المبذولُ
أي قلبٍ فتحتَ من أجل شعبٍ
عزّ في شأنِ ما فتحتَ المثيلُ
وعلى هذا الامتداد؛ بلغ الشعر حالة رثاء متفجّع في نص غادة القديحي:
رَحَلْتَ وفِي القُلوبِ عَليكَ حَسْرَه
أَتَدْرِي كم تَرَكْتَ أساً وجَمْرَه
وكم عَيْنٍ بَكَتكَ بِكُلِ حُزْنٍ
وأَجْرَتْ أَدْمُعاً صُبِغَتْ بِحُمْرَه
وكم صَدرٍ عَليكَ يَضِيْقُ حُزْنًا
ويُخْرِجُ من لَهِيبِ الوَجْدِ زَفْرَه
النثر مفصلاً
أما التفصيل؛ فكان من صوب الكلمات.. هناك ملامح أكثر.. ومن زاوية عدنان العوامي كان الفقيد أبو السعود “أديباً ناقداً”، حسبما قاله الآخرون. العوامي خاطب صديقه الراحل “هم ـ والله ـ محقون.. إن كانوا يقصدون أدبك خلقاً ومسلك حياة”.. أضاف “ويصفونك ألمعياً حديد الحافظة، وهم أيضاً صادقون، إن كانوا قصدوا حفظك المودة وحقوق الأخوة والوفاء.. ويُطرونك شاعراً رقيق الحرف، جميل العبارة، ولا إخالهم عنوا سوى رقة مشاعرك ورهيف أحاسيسك، ونبل إنسانيتك”.. هكذا استرسل العوامي.
صبابة
أما الإعلامي وعضو الشورى السابق محمد رضا نصر الله؛ فقد أخذ من المتنبّي صبابته.. المتنبي الذي رأى نصر الله صديقه أبو السعود يحاول حذوه.. “لا في دكاكين الوراقين ومطالعة دواوين الشعراء.. وكتب النحاة والبلغاء والفلاسفة.. وإنما في تثقيف ذاتك بما ترك التراثيون.. منفتحاً ـ منتصف الخمسينيات ـ على تيارات الفكر والسياسة والشعر، هابّة أعاصيرها دفعة واحدة، على مجتمعات الشعوب العربية”.
تقييم
ومن زاوية قريبة التقط على حسن الخنيزي صورة مشابهة، فوصف صديقه “لم تكن قراءته لأي كتاب قراءة عادية، بل كانت قراءة تقييم.. كانت تخزّن في دواخله لتخرج بصورة منقحة عند أي نقاش، لتظهر بإشراقية معرفية جديدة نتيجة تقييمه لها”.
ثقافة شمولية
وعلى وتر الإعجاب ذاته؛ عزف الدكتور حسن البريكي “لقد هيأتك ثقافتك الشمولية للقفز فوق المكان والزمان، فصرت عابراً للأعراق والأديان والمذاهب والطوائف. كنت مؤمناً، بعيداً عن التباهي، وكنت عاشقاً لروح الدين والفن ومنها نشأ حبك للأرض والإنسان.. وهذا ما يضاعف خسارتنا العظيمة برحيلك”.
لا فواصل
أما عصام الشماسي؛ فقد وضع توصيفاً للراحل، إنه “روح متوثبة تلاحق في وعي كل ما يستجد من شؤون الحياة لا ترضى بأن تعيش خارج حدود الزمن أو على هامش الحياة، شفافية روح ودماثة خلق وصدق مع النفس والمجتمع والشعور والوجدان. لا يضرب سياجاً على الأفكار التي تغاير قناعاته ولا يضع فواصل أو حواجز بينه وبين من لا يلتقي معه في فكرة او يختلف معه في رؤية بل تراه لا يدع و لا يغادر جلسات السمر التي قد تمتد إلى بعد منتصف الليل و ما يتخللها من أحاديث الأدب و التاريخ و الإنسان و المجتمع إلا و قد وضع حداً فاصلا بين حرية إبداء الرأي و الاحترام و التقدير و ما يغمر به جلاسه من دفء مشاعر و حبٍّ فياض. رجل اتقن لغة الحب ولغة الإنسان وجسد معاني الوفاء والكرم والسخاء”.
جداً جداً
تعدّدت المشاركات، وتعدّدت جوانب الفقيد في كل فقرة من فقرات الحفل. شارك الملا محمد علي الناصر بقصيدة، وحسن علي الزاير بكلمة، وجهاد الخنيزي بكلمة، وكذلك علي أبو السعود، وعلي حسن الخنيزي. ولعبدالغني السنان كلمة له وقصيدة لأيمن الجشي ألقاهما تباعاً، وكلمة لميرزا مهدي الصايغ، وعلي حسن أبو السعود.. إضافة إلى نص لنجل الفقيد فراس..
تقاطعت الكلمات والقصائد مساء البارحة في تسجيل مواقف وفاء لرجل معروف بمواقفه وإنسانيته ونبل سيرته.. جمعت روح أحمد أبو السعود أصدقاء الحياة تحت سقفٍ واحد في حيّ البحر، ليتحدّثوا عمّا فعل الموتُ في صديقهم.. صديقهم الذي كان يجمعهم، كلّ جمعة، وكلّ رمضان، ويحضر أفراحهم وأحزانهم، ويشارك في قضاياهم، ويُناقش أفكارهم..
مساء البارحة كان عاطفياً جداً، اجتماعياً جداً، ثقافياً جداً. وكان الشهودُ أصدقاء ورجال مجتمع، ومثقفين.