“يا فاتّه يا بتّي”.. صنعتها الأساطير وحاربتها التنمية عند اليونانيين "خادمة مظلومة" وعند العرب "كذابة".. وعند الخليجيين "أمٌّ مهملة"

عنصر بيئي يواجه تهديداً من 4 مصادر

محمد الزاير*

أسطورتها في القطيف لا تختلف كثيراً عن الموروث في كثير من البلاد والخليجية العربية. وأغلبها يتحدث ـ خرافياً ـ عن أمّ أضاعت ابنتها، وبقيت على حسرتها وندمها. ثُم مُسخت في هيئة طير، وبقيت تنادي ابنتها المفقودة باسمها. هناك اختلاف في بعض التفاصيل فحسب، ففي البحرين وقطر؛ البنت أكلها صقر أو عُقاب، وفي الكويت يقولون إن نداء الأم لعنة أصابتها.

لكن هناك اتفاقاً شبه تام في الخليج العربي على أن الحمامة المطوقة هي حيوان ممسوخ ومسبب للنحس والفقر، وأن مجرد مكوثها على احدى البيوتات فهو نذير شؤم. وهناك ـ أيضاً ـ اتفاق شبه تام في معظم الدول العربية (الخليج + الاردن + العراق + سوريا + فلسطين + بعض دول المغرب العربي) على أن صوتها هو “نوح” من النياحة، وهو مدلول على الحزن الذي يواكب غناءها وبالتالي يدعم الاسطورة بأنها فاقده.

كاذبة وخادمة

يسمّيها أسلافنا العرب “الفاختة”، أي الكاذبة، حسب ما ذكره الفيروزآبادي في “تاج العروس”. وجاء في “مجمع الأمثال” للميداني “زعمت العرب إن حكاية صوت هذه الحمامة «هذا أوان الرطب» وهي تقول ذلك باستمرار حتى وإن لم يطلع طلع النخلة بعد، ومنه نُسب الكذب إلى هذه الحمامة”.

وتقول إحدى الخرافات العربية إن طوقها حصلت عليه بعد دعاء من النبي نوح لها.

وذكرتها أسطورة يونانية أنها كانت خادمةً مضطهدة، فحوّلتها الآلهة إلى حمامة حتى تتمكن من الهرب. أما تصويتها فهو يحكي قصة ظلمها.

حارسات النخيل

كلّ ذلك وأكثر يحوم حول الحمامة المطوَّقة المعروفة في القطيف والبحرين “يا فاتّة”. كما تُعرَف بـ “حمام النخيل”، وهو بيئتها الطبيعية المناسبة. ولذلك؛ لم يكن سكان القطيف يعترضون على وجودها في النخيل، ولكنهم يطردونها من المنازل لأنها “نذير شؤم”.

ويتذكر من هم في الأربعين من العمر اليوم هوازج حارسات البساتين والنخيل، فما إن تتعامد أشعة الشمس على قلوب النخيل وترمي السعفات الخُضر بظلالها على شُجيرات اللوز والليمون بين الضواحي والبساتين؛ حتى تبدأ تلك الحارسات بغنائها المعهود، منادياتٍ على بناتهنّ بالرواح والمجيئ.

انها حارسة النخيل المطوقة التي ضيعت ابنتها في يوماً من الايام بين الآجام و النخيل وحلت عليها اللعنات فظلت جيلاً بعد جيل تناديها و تبحث عنها، علها تلتقيها في يوماً من الأيام. صوتها جميل ويمكن سماعه على بعد مئات الأمتار، وترنيمتها تتكرر، وكأنها نداءٌ يعزّر قصة الأسطورة القديمة الموجودة في ثقافات كثيرة.

تنشط في الغناء وقت الظهيرة وهو سلوك مميز لها حيث تتعامد اشعة شمس الظهيرة على النخيل لترسم ظلال أسفل منها تتخذه الحمامات مكان لاستراحتها وغنائها.

الحمامة المطوقة

Eurasian Collared Dove

هي إحدى الحمامات الثلاث الموجودة في المنطقة تحت جنس Streptopelia وهي النوع الاصيل والمحلي منها الموجود طوال العام. إلا أن السنوات العشرين المنصرمة شهدت تراجعاً في أعدادها، وهناك عدد من الأسباب، أهمها تراجع الغطاء النباتي والصيد الجائر ونقص الموائل، ودخول نوعٍ غريب يُشبها نوعها.

يمكن توصيف “الفاختة” بأنها الأكبر حجماً في الأنواع الثلاثة، والأكفأ من حيث الحجم والطيران، وكذلك التأقلم مع غابات النخيل وما يتوفر فيها من غذاء وما يحيطها من أخطار. تمتاز بطوقها الأسود الجميل الممتد من جيد عنقها نحو الخلف دون أن يتصل من الأمام.

رقم بيئي مهم

وكغيرها من العناصر البيئية؛ تشكل هذه الحمامة رقماً مهماً جداً في توازن المنظومة البيئية المحلية التي تعيش فيها. ومن المؤكد أن الإخلال بهذا العنصر عن طريق نزعه من المنظومة او تقليل اعداده سوف يسبب خللاً بيئياً إن لم يظهر اليوم؛ فسوف يظهرغداً. قد يكون الخلل طفيفاً لا يُدرك ضرره، كما قد يكون كبيراً جداً بحيث لا يمكن السيطرة عليه بيئياً.

وقد تعرضت هذه الحمامة للصيد من قديم الأزل رغم كل الخرافات التي حيكت حولها، والصيادون يحبون طعم لحمها اللذيذ والوفير مقارنة بما تملكه بيئتهم الفقيرة من طيور هزيلة وصغيره الحجم. وأكثر الصيادين يفضلون صيدها في الليل عن طريق استخدام الإضاءة، والسبب حذرها الشديد الذي اكتسبته وورثته جيلاً بعد جيل بسبب كثرة تعرضها للصيد.

كما تعرضت لضغط بيئي كبير جداً بعد دخول نوع جديد الى البيئة وهو الحمام الدبسي  في السنوات الأخيرة، وبوادر التغلب على دخول هذا المستجد بدأت في الظهور خلال السنوات الخمس الماضية حيث ازدادت أعدادها من جديد.

هذه العوامل تسببت في إحداث تغيير في سلوك الحمامة المطوقة، بخصوص مكوثها في المزارع والنخيل فصارت تلجأ إلى الأحراش والمناطق المفتوحة القريبة من الصحارى، ولا تزور المزارع بكثافة عالية، الا وقت التزاوج وبناء الاعشاش.


* باحث بيئي وأكاديمي في جامعة الملك فيصل، رئيس لجنة رصد الطيور في المنطقة الشرقية.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×