صوتان وديوانان.. “خراب” علي سباع يُجاور “جنة” عادل دهنيم أمسية شعر حضرها شعراء ونافست النساء الرجال في القراءة
القطيف: ليلى العوامي
ليلة شعر بصوتين متباينين، ومجموعتين، وشاعرين، وجمهور منوّع.. هذا ما حدث مساء البارحة؛ في صالون “الرواد الثقافي”، حين اجتمع علي سباع وعادل دهنيم، من أجل توقيع مجموعتين لهما، وحضر شعراء من أجيال مختلفة، في حيّ الشاطيء.
أشجان المقدمات
“هذا أنا، وتلك صورتي.. حيث نسيت أن أعيد للبيوت سكانها، وللمآذن أعشاشها، وللجدران شهادتها، ولأجمل اللحظات أحضانها، نسيتُ أن أرتب خراب ذاكرتي لأجل المغفرة”..
هكذا كتب الشاعر على سباع في مقدمته إلى أن يصل “ثم أعود وأصعد، الشجرة ترتدي حذائي، والبيوت تنام على صوت أمي، والمآذن تطير عصافيرها، وأنا أستند على جدار الهواء، أفكر: كم من العمر سأحتاج لأعمر هذا النقيض؟!”
نوال الجارودي، مقدمة الأمسية
أما الشاعر عادل آل دهنيم فكتب في أول صفحة من شمال الجنة :”وأنا كأسلافي العرب السابقين الأولين، لا يزال هذا الشعر بروعة أخيلته يلهب مشاعري، ويحرك مكنونات صدري، ويدخلني معه في عوالم فاتنة لا أريد الخروج منها؛ فهل ورثتُ ذلك كله منهم؟ أم هي طبيعة الإنسان في كل مكان وزمان، تميل للكلمة العذبة، والنغمة الرائمة، والخيال الذي لا نستطيع أن ننفذ إليه إلا بسلطان، وليس هناك سلطان كسلطان الشعر يدخلكم عالم الخيال من بيبان اللغة وعلى أجنحة الموسيقا؛ فانفذوا، لا تنفذون إلا بسلطان”.
روح الشعر وتعريف
مقدمة الأمسية بدت مفعمة؛ وقد بدأتها الشاعرة نوال الجارودي بالتعريف بالشاعرين، فعادل آل دهنيم ـ من مواليد جزيرة تاروت ـ خريج جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ينظم الشعر ويشارك في الفعاليات، صدر له رواية “أقنعة الشياطين”، وهو عضو ملتقى حرف الأدبي..
الشاعر عادل دهنيم
وحينما عرفت بعلي سباع قالت “طبيب بيطري يعمل لدى وزارة البيئة والمياه والزراعة، وهو ـ أيضاً ـ عضو ملتقى حرف الأدبي، صدر له ثلاثة دواوين “بأبواب المدينة” في 2010 ، و”نزهة الهارب ومشيئة الغريب” في 2016 ، و”شاهداً على نفسي” الذي يكمل ثالوثه، ويطل به علينا اليوم برحابة ماتعة كي يسمعنا بعض معزوفاته، أو يفرغ فينا من رصاصاته، أو يكتفي بمشاهد نراهق بها أصدقاءنا في استعراض لهيجان أوزة على الرمال البيضاء.
الشاعر علي سباع
شمال الجنة
واستفتحت الجارودي الأمسية بإشارة سابقة من الشاعر “مالك فتيل” حول ديوان عادل آل دهنيم “شمال الجنة” – يقول: بعد قليل من التنقل بين نصوص الديوان تنكشف مآربُ شاعرنا، عادل آل دهنيم، من وراء اتخاذ الجغرافيا الميتافيزيقية “شمال الجنة” عنوانُ لهذا السفر، ومن تعميم الشعر كتصنيف لنصوصه. إنه وبكل بساطة يؤكد إيماءة باتساع مفهومه للشعر ليتخطى حدود واقعه الشكلي إلى فضاء ميثافيزيقي غير مادي، مشيرًا إلى الشعر في فضاءاته المتعالية، وسماوات معانيه البعيدة. فها هو يجول بديوانه مجمل جغرافية الكتابة الأدبية، شكلاً وموضوعا: الشعر العمودي الكلاسيكي، الشعر الحر، النثر، وحتى القصة، الطويل من النصوص والقصير منها، حتى الشذرة. يجمع الوجداني الصرف، بالموضوعي، مضمّنا إياها المكنون من تعابير تراثيات اللغة بجوار الحديث المبتكر، كما يصب في نص من وجده أشد الحزن وأعمقة، ويطلق من آخر ضحكات فرجه وابتهاجه، يجمع التاريخ بالأسطورة كحكاية شعرية واحدة، ويزاوج أنفاسه بأنفاس الآخرين كروح واحدة، تجتمع في ديوانه الأشتاث، وتتطابق التناقضات، يأخذ شمال جنة بشريته النقية إلى ركن مقابل تماما لجحيم الآخرين!
ووصفت لغة الديوان بأنها تمتاز ببيان رائع، عذب، صاف، لم يشب بالوحشية ولا بالغموض الزائف ولا بالاختلال الدلالي، مع كثافة كافية للوقوف والتمعن، لغة تأخذ ببساطتها يد المتلقي إلى داخل النص، وإلى ما ورائه.
وأضافت أن آل دهنيم، يقدم من خلال لغته المتينة وأسلوبه الأخاذ عرضا سحريًا يستأنس به القارئ البسيط ويستلذ به الجدير بتلقيه، فلا البسيط انغلقت عليه المعاني، ولا الجدير ملّ من سهولتها، إنها قدرة فريدة في هذا العصر، قدرة لا تؤتى إلا لمن آمن بلغته ووهبها الوقت والظل الكافيين لتورق على مهل.
تجربة لا تهدأ
وتطرقت الجارودي لتجربة الشاعر علي سباع الشعرية، بالاستشهاد بما قاله الشاعر زكي الصدير، من أن “قلق المبدعين يدفعهم للكثير من التجارب في حقل الكتابة بهدف استكمال مناطق لربما لم يكتشفها أحد، لهذا نجدهم قلقين حيال تجاربهم الجديدة أمام الهندسات الشعرية الجاهزة، يحاولون ابتكار لغتهم وسط ضجيج التجارب التي حولهم الشاعر علي سباع واحد من تلك التجارب التي لا تهدأ وهي تحاول رسم مشهدها الخاص”.
ووصف سباع بأنه من الجيل الشعري الذي يؤثث لقصيدته بهدوء دون أن يجلب ضجة أو يوقظ أحداً فقط، أولئك المهتمين باصطياد النص المختلف هم وحدهم الذين سيتنبّهون لنصه الموغل في الاشتغال والرمزية. فهو يكتب من أجل أن يستمر في الكتابة من غير أن تشغله فكرة هندسة النص القادم، أو شكله، أو جنسه .المهم بالنسبة له أن” تستمر في ممارسة الكتابة.”
وقالت إن سباع يروي لنا في تجربته، عن تفاصيل الكائنات من حوله شعراً، وكأنه يذهب قريباً جداً باتجاه السرد دون أن يقع فيه.
عوالم زاخرة
من جهتها، قالت أزهار آل ابريه، في قراءتها لتجربة الشاعر عادل آل دهنيم في “شمال الجنة”: لم يسافر من لم يرحل في الشعر، من لم يحترق بين دفتي ناره وينطفيء في شمال جنته من لم تكاشفه روحه عما وراء السماوات، ومكامن الحكمة، لم يعشق من لم يعتلي صهوة غروره ثم ينكسر أمام خساراته فانفذوا قالها الله العزيز في محكم كتابه، وقالها عادل احتذاءا بليغا في مطلع شرفته شمال الجنة في الركن المقابل للجحيم عادل إبن الجغرافية الآسرة سنابس، وطن شاعريته وأشواقه وأغانيه، ابن اللغة الوارفة الفاحصة أسرار التجلّي، المانحة أسئلة الغيب، التي تطرق كثيرا أبواب الشك في هدي رائع للتفكر، ودعوة شهية على مائدة الأثر والتأثير، قال أزرق ثم تكشف الغرق، سادر فلك ترحاله بين موجة وأخرى، أعمى ذلك الذي لم يبصر حقيقة الألوان في القصيدة المبصرة،
وعن عوالم عادل الزاخرة، أضافت: لو كان الشعر وحده لكفي لكنه بفعل الخدوش في أيقونة أنوش خلق ما هو أوسع من هذا الحمأ المسنون، ماهو أبعد من لقطة عابرة، هو الذي ينقلك في مسرح إغريقي يبدل مشاهده الصامتة كما تبدل المواسم أثوابها، وآلهة الأساطير أسماءها، بعد ميثولوجي مليء بالتشويق في أروقة القصيدة بإيحاءاتها التاريخية ورموزها الميثولوجية، وإرثها الزاخر كما في أورك ، وبابل ، والحضارة السومرية، الأثر الناضح بل نبي الأثر المأخوذ بمفردات القرآن وحكاياه، المتسق في بسط صوره، الذي تأنسه الروح وتنسجم معه الذائقة، ثم ما يضيفه للحس في هالة بهائية بين مقام العجم “الماهوري”.
وأوضحت أن عادل في عوالمه المحسوسة أمام اتساع للداخل، يجوبُ أحاسيسها ويرصد كواكبها ونجومها، وفي مقابل كل مفردة أضدادها، تماما كما يتصدر عنوانه الكتاب، شمال الجنة في الركن المقابل للجحيم الذي يرن منذ ولادتي، ولا أدخل لعبة أعلم أني سأخسرها، لا تحركني خيوط الغيب ولا تعكسني مرآة الوجود.
من مدينة الحلم
بالسياق، وصف الكاتب حسين الجفال الشاعر على سباع بقوله: هو شاعر جاء من مدينة الحلم باحثا عن حلمه في القصيدة، يفتح أبواب المدينة كلها مستكشفا الجميل الذي يترك ذكرى مؤثرة في الروح، ممتلئ شعره بالدلالة والرموز، التي يراها خادعةً أحيانا وتوصل المعنى المغاير الذي لا يريده، يرى المستحيل مجرد تصور آني ويبذل جهده ليفخخ اليقينيات، وهو مع هذا يرى النص بغير هاجس الشك هو نص ميت .بيديه معول للهدم الوهمي، لا ليسوي البناء بالأرض، بل ليفتح نوافذا ويقيم أبواباً تكفي ليتنفس ويمد بصره في القصيدة التي يأملها.
ومضة “بلزاك”
وختم بأنه في كل تجربة لا يشبهه في الأخرى، لا يشعر قارئه بالملل أو التكرار، يشبه السرد في حديثه، ومثل ومضة” بلزاك”، يشعل قناديله حيث يتطلب الشعر التخفف من الأحمال، ويطلق جناحيه ليخلق مساحة حرة لطيران مساحة حرة آمن اطمئن عليه لأنه دائما في حالة قلق وعدم رضا تام عن قصيدته، لذلك كلما شعر بتطويق لقصيدته، كسر الطوق وسلك طريقا أكثر رحابة ولا ميناء لرحلته الشعرية.
هكذا كانت الومضة.. الاحتفالية بشبق قناديلها التي أطلقت جناحيها لترفرف بين الحضور ومتذوقي الشعر في المنطقة..
لم تكن مجرد كلمات، بقدر ما كانت دفقات تنساب لتغمر المكان بألق لا مثيل له، دونما ختام!